من أجل قضية فاعلة ترتقي لمستوى التحديات شعبنا بين نار الوطن وتيه المهجر – الوسائل والآليات * “الكنيسة”
جورج هَسَدو
حملت الكنيسة راية النضال القومي بداية القرن العشرين عندما كانت الملجأ الأول لشعبنا في مختلف قضاياه الدينية والاجتماعية والسياسية بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى وعواقبها الوخيمة على حاضر شعبنا ومستقبله وجغرافيته.. وإن كان الأمر لا يختلف كثيراً حتى مع بداية اعتناق شعبنا للمسيحية وتطور الكنيسة من (كيان) للتبشير الإلهي إلى (مؤسسة) لإدارة شؤون الرعية، فالناس غالباً ما كانت تلجأ للزعيم الديني عند الأزمات والذي كان يعتبر الواسطة الدنيوية بين الرعية والحاكم.. لكن مع دخول زعامات عشائرية (ولاحقاً قيادات عسكرية) على خط إدارة الملف السياسي لشعبنا، أصبحت قضية شعبنا القومية منقسمة بين المرجعية الدينية والزعيم العشائري والقائد العسكري، ولم يكن الأمر يخلو في كثير من الأحيان من خلافات على التراتبية والصلاحيات.. وأستمر الأمر هكذا إلى ما بعد مذبحة سميل 1933، ليتحول بعد أواسط القرن العشرين وتحديداً بعد أن عمد شعبنا إلى تأسيس أحزاب سياسية إلى شبه نزاع على الزعامة بين المرجعية الكنسية والقيادة السياسية، ليحسم الأمر في الثلث الأخير من القرن الماضي لصالح الأحزاب السياسية.. حيث نجحت قلة من أحزابنا شعبنا (الفاعلة) بتبني خطاب قومي رزين ومقبول شعبياً، وهو ما أرغم الكنيسة على تقبل (زعامة) منافسة حتى وإن كان الأمر غير مرحب به كنسياً لا كمؤسسة ومرجعية ولا كزعامات قيادية ورجال دين.
إلا أن الكنيسة لم تستسلم نهائياً ولم تسلم بالأمر الواقع وبأن اللحظة كانت للقيادة الدنيوية (حصراً) خاصة مع تزايد الطبقة المثقفة بين صفوف الشباب، حيث دأبت طليعة الشباب المتعلم إلى تبني نظريات علمية حديثة لما يخص قضايا الشعوب.. وبسبب أن الكنيسة كانت المستقر الأهم والأمن للتعبير عن الذات القومية ولو بطرق وأساليب مموهة (وأهمها تعليم وتعلّم اللغة الأم)، فقد كان رجال الدين لكنيسة المشرق (بمختلف فروعها) يزاحمون المدنيين على التعبير عن تطلعات الأمة كلما تسنى لهم ذلك.. لابل أنه عند الأزمات وتداخل المحورين القومي والديني مع بعضهما كانت الطليعة السياسية هي التي تلجأ إلى الكنيسة وتلتف حولها لمواجهة التحدي، وهو ما حصل بالضبط عندما قررت وزارة التربية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي تدريس القرآن لجميع الطلبة بضمنهم المسيحيين.. وقد ساهم إندفاع الشباب الواعي وثباتهم على موقفهم الرافض إلى جانب كاريزمة وشجاعة البطريرك بولس شيخو في إنجاح المسعى والذي تكلل بإيقاف محاولة (أسلمة) المجتمع تلك، حيث سحبت الحكومة العراقية المقترح وألقت باللوم على وزير التربية ومن ثم أقالته.. وهكذا إستطاع رجال الدين الإحتفاظ برمزيتهم وموقعهم القيادي في المجتمع حتى مع تنامي الوعي السياسي عند الطبقة المثقفة، وقد فضّل السياسيون عدم التصادم مع الكنيسة والتغاضي عن تدخلات رجال الدين في المسائل القومية حفاظاً لمكانتهم المعنوية عند الجماهير.
لكن أخطر ما مارسته الكنيسة بحق القضية القومية حصل بعد عام 2003 وسيطرة الإسلام السياسي على إدارة الدولة العراقية، حيث فكّر (بعض) رجال الدين المسيحي أن بأمكانهم ركب الموجة الدينية التي إجتاحت البلد ولهم أن يتصدروا المشهد السياسي المسيحي حالهم حال المسلمين.. فعمدت الكنيسة إلى التدخل في الشأن السياسي لشعبنا وسعت لسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب السياسية، فوجهت ضربة قوية إلى التمثيل السياسي الحزبي (المترنح أصلاً) وتصدر رجال الدين المسيحيين المشهد السياسي.. بل أن بعضهم عمد إلى الترشح لمجلس النواب العراقي في دوراته الأولى ليطرح نفسه ممثلاً (سياسياً) للشعب إلى جانب سلطته الدينية، كما كان هناك من رجال الدين المسيحي من تولى مناصب إدارية وحصل على عضوية مجالس البلدية كالمحافظات والأقضية.. والغريب في الأمر لم يكن محاباة زعماء الأحزاب العراقية والكردستانية لرجال الكنيسة وتفضيلهم على السياسيين حيث التعامل معهم أسهل (وأنجح) لها، بل الغريب كان تشجيع بعض أحزاب شعبنا السياسية لبعض الزعامات الكنسية للتدخل في الشأن السياسي وتوظيفها للنيل من منافسيها.. حيث في النهاية تحولت الكنيسة من مؤسسة إيمانية إلى (مرجعية سياسية) لكثير من الأحزاب والسياسيين الذين فكروا في استثمار العامل (المذهبي) لصالح طموحاتهم الشخصية، بل كان هناك من الكنائس من عمدت إلى تأسيس واجهات (حزبية) لها لتدخل بها المنافسة السياسية.. ولتأكيد هذه الرؤية أو هذا التحليل ما على القارئ إلا أن يتابع تحركات (كنيسة المشرق الأشورية) على الساحة السياسية الكردستانية خلال السنوات الأخيرة، ويلقي نظرة على علاقة (الكنيسة الشرقية القديمة) مع الأطراف السياسية في بغداد، ويحلل تصريحات زعامات (الكنيسة السريانية)، ويراجع الغاية التي أسست من أجلها (الكنيسة الكلدانية) رابطتها.
* (6-12)سلسلة مقالات تتناول جوانب رئيسية في العمل القومي والأداء السياسي (الكلداني-السرياني-الأشوري).