في شارعنا.. زها حداد وعزيز علي ومي جمال!! – متي كلو
“أودّ لو أستطيع النوم ليلة واحدة من دون ذكريات” سيمون دي بوفوار من الصدف ان ننتقل في نهاية عام 1964 من منطقة المربعة في شارع الرشيد الى منطقة البتاويين قرب القصر الابيض، وكان هذا الشارع يعج بالناس من مختلف الاديان والقوميات والمذاهب ، العربي والكوردي و السني والشيعي والمسيحي واليهودي والبهائي، ومن مختلف الطبقات الاجتماعية في ذلك الوقت،واغلبية الدور كانت تسكنها عدد من العائلات، وكان من ضمن الساكنين في ذلك الشارع السياسي والاقتصادي المعروف محمد حديد واحد وجوه الليبرالية الوطنية ، و اول وزير للمالية في العهد الجمهوري ورئيس الحزب التقدمي الديمقراطي المنشق من حزب الوطني الديمقراطي الذي كان يراسه الشخصية الوطنية كامل الجادرجي، وكان الباب الرئيسي لمسكنه مقابل الباب الخلفي للقصر الابيض اما مأرب السيارة فكان في الفرع الذي كنا نسكن فيه وكان المأرب مقابل دارنا مباشرة ، حيث كان محمد حديد يملك سيارة سوداء اللون تحمل رقم 96 بغداد وسائق خاص بهندام مميز ، حيث يرتدي بدلة رصاصية اللون وقبعة من نفس اللون وكانت ملابسه في غاية النظافة، فكان يحضر الساعة السابعة صباحا ويفتح باب المأرب ثم يبدا بتنظيف وتلميع السيارة لحين خروج “زها” ابنة محمد حديد في الساعة السابعة والنصف وهي ترتدي ثوبا ابيض وكان الزي الموحد لمدرسة الراهبات الكائنة في بداية شارع الجمهورية في الباب الشرقي،وعندما اسس محمد حديد شركته “شركة استخراج الزيوت النباتية ” اطلق اسم ابنته”زهاء” على احد منتوجاتها من الصابون. السيرة الذاتية لزها حداد يعرفها القاصي والداني ولكن نذكر هنا بعض من اعمالها العالمية ،مجمع السباحة في لندن، المجمع الفني في أبوظبي، المركز الرئيسي لشركة BMW في ألمانيا،مجمع كرة القدم في طوكيو،مركز الفنون الجديثة في روما،جسر أبو ظبي (الشيخ زايد)، متحف الفن الوطني في روما.،مبنى الفن المعاصر في أوهايو. اما الشخصية الثانية التي كانت تسكن نفس الشارع، هو الفنان المونولوجست المعروف عزيز علي وكان يقيم مع اولاده وزوجته اليهودية”ام عمر” في مسكن كبير، وكنت اشاهده عندما يخرج من مسكنه في اوقات متفاوتة، أنيقا بكل ماتعنيه الكلمة من معنى حيث كان يهتم بلباسه وهندامه ، قليل الكلام مع جيرانه، ولكن كان يحضى باحترام الجيران في الشارع ، وكيف لا وهو الفنان الذي كان نزيل المعتقلات والمنافي وذاق الامرين فيها بسبب مواقفه الوطنية من العهد المباد والمعاهدات الاستعمارية وهو الذي كان يقدم فنه على مدار عقود بلغة يفهما الصغار قبل الكبار والبسطاء من الفلاحين والعمال والكسبة والطبقة المسحوقة وكذلك المثقفين. اضافة الى المونولوجات الوطنية، قدم مونولوجات اجتماعية تناول فيها بعض المظاهر الاجتماعة بالنقد الذي يتسم بنكهة ساخرة وبتهكم ، استمر في هذا الفن لغاية ثورة 14 تموز 1958، فقدم اغنية واحدة لهذه الثورة التي كان يبشر بها وهي” نو نو لهنانة وبس”ولم يستمر بعد ذلك بسبب الصراع الذي حصل بين القوى الوطنية واحزابها وبين القوى القومية والبعثية وانصارها ، فابتعد عن فنه ونقل وظيفته من وزارة الاسكان الى وزارة الخارجية حيث عمل في سفارة العراق في براغ وبعدها في تونس ولكن فصل عن وظيفته عام 1962، اما بعد انقلاب 17 تموز 1968 كلف بتاسيس مدرسة ابتدائية للاطفال ولكن في عام 1970 طلب احالته للتقاعد، اما في عام 1975 في عهد احمد حسن البكر ،فتح احد صناديق الودائع في البنك المركزي العراقي،الذي بقي مغلقا لمدة تزيد على 25 سنة، لتكتشف الحكومة ملفات ما عرف بـ ” قضية المحافل الماسونية” التي ورد ذكر اسم عزيز علي فيها كاحد المنتمين الى المحفل الماسوني في الاربعينيات، لتحكم عليه محكمة الثورة بالسجن المؤبد بتهمة الماسونية،ولاسباب صحية افرج عنه بعد سنتين انزوى في داره و لكن القدر يأبى ان يتركه، ففقد ابنه (عمر) في الحرب العراقية- الايرانية، ومع بداية التسعينيات بدأت إذاعات المعارضة العراقية في الخارج ببث اغاني عزيز علي وكأنها موجهة ضد نظام صدام حسين ، وخوفا من بطش النظام ،أعاد عزيز علي طبع كتابه “عزيز علي.. سيرته واغانيه” مع مقدمة، تشيد بحزب البعث وزعيمه .. رحل الفنان عن هذا العالم في تشرين الاول عام 1995، وقد الصقت به خلال حياته ، تهمة النازية، ثم الشيوعية وبعدها القومية واخرها الماسونية، رحل المتهم الذي لم يتحزب يوما الا العراق . ومن اشهر اغانيه”كل حال يزول” كل حال يزول ما تظل الدنيا بفد حال تتغير من حال لحال هذا دوام الحال محال هذا العالم مليان اسرار اسرار تحير الافكار دولاب الدنيا الدوار صاعد نازل باستمرار وبكل لحظة وكل مشوار يقبل ويودع زوار زغار كبار توفي الفنان عزيز علي عام 1998 عن عمر 87 عاما دون أن يذكره أحد. اما الشخصية الثالثة التي كانت تسكن في نفس الشارع فهي الفنانة مي جمال (1945 – 2005)والتي كانت تسكن مع امها في نهاية الشارع في ملحق”مشتمل” منخفض ومستقل عن دار كبيرة تسكنها عدد كبير من العائلات، ودائما كنا نشاهد لوحة معلقة على جدار الدارالكبيرة “غرف للايجار للعائلات فقط” يجاورهم محل لبيع مواد غذائية متنوعة يملكه احد من ابناء زاخو الذي كان يسكن مع افراد عائلته في هذه الدار الكبيرة ايضا، حيث كنا بعض من شباب الشارع نلتقي مساء عند هذا المحل لنشتري علبة من البسكويت وقنينة من الببسي بـ 25 فلسا ونمضي وقتا طويلا وممتعا عند هذا المحل نتجاذب اطراف الحديث، او على موعد لحضور عرض سينمائي في احدى دور العرض القريبة، مثل النصر او غرناطة او السندباد وكانت مي جمال تحضر احيانا الى المحل لتشتري مادة غذائية او عدة قناني من الببسي عندما يحضر عندما يزورها ضيوف. تزوجت مي جمال من الفنان فؤاد سالم، وانجبت منه ابنة واحدة”نغم فؤاد” وبسبب الحملة التي قادها نظام حزب البعث ضد القوى التقدمية وشخصياتها، ترك فؤاد سالم العراق خوفا من ازلام السلطة، فاجبرت السلطات مي جميل بطلب الطلاق من زوجها رغما عنها، بالرغم من قصة الحب التي جمعتها معه ولكن لم يكون لها خيارا في ذلك. شاركت مي جمال في اعمال درامية متميزة لا زالت في اذهان العراقيين ومنها المسلسل ( الذئب و عيون المدينة و النسر و عيون المدينة ) و مسلسل ( وينك يا جسر ) تركت مي جمال ابنة من الفنان فؤاد سالم”نغم” وهي الابنة الوحيدة من زواجهما، بحيث كان والدها يحبها حبا لا يوصف وكتب لها اغنية”يا نغم” الخالدة الى يومنا هذا، ويعبر عن بعده الاجباري لفراق ابنته نغم الذي تركها طفلة صغيره في بغداد عندما هاجر من العراق ولم يراها الا بعد سقوط النظام فوجدها شابة متزوجه . يابنيتي لاتعتبين دهري رماني يانغم غصبن علي تدرين مبعد ترى اني ويلي ياماخذه القلب مني ويل بويه كما كانت مي جمال فنانة مشهورة كذلك ابنتها نغم، فكانت عضو في الفرقة الوطنية للتمثيل وقامت بتقديم العديد من الاعمال الفنية سواء الدرامية او المسرحية، وبسبب معاناتها من ازمة القلب ونقص بالدم توفيت في تركيا في 31 مارس 2021. في اواخر عام 1966،غادرت مع عائلتي هذا الشارع وحي البتاويين لنسكن في حي العلوية وفي دار قريبة من منزل الزعيم عبدالكريم قاسم، الذي اصبح احد اقسام البلدية. تحية الى ارواح هؤلاء المتميزين وبالرغم من رحليهم ولكن اسمائهم واعمالهم لا يستطيع احد ان يمحيها من الذاكرة لانها جزء من تاريخ العراق.