المدوّنة المُغلقة – منهج جديد لفهم النصوص – منتهى بدران
إن المتعارف عليه في فهم النص هو “لدينا فهم ونص وطريقة للفهم. فالطريقة تحدد الفهم، والفهم يحدد النص تبعاً لبعض الإعتبارات. فمثلما أن الفهم لا ينقل النص كما هو، فإن الطريقة لا تنقله كما هو، بل تُصوره بحسب قواعد ومسلمات قبلية تشكل محور النشاط للفهم وإنتاج المعرفة”[1]. بمعنى أدق لدينا محددات للفهم كما أرى حيث أن المسلمات القبلية، أو قل المرجعيات الفكرية هي العائق الأساس الذي يحول دون فهم النصوص كما هي لا سيما في عالمنا العربي الذي تعصف بكتّابه ومثقفيه جملة من الثوابت والقدسيات التي عليه المرور بها، وعدم تجاوزها في أي تفسير أو فهم أوتحليل.
في خضم هذا التيه المعرفي الذي يجعل فهمنا للنصوص متشظيا، فاقدا للموضوعية والمنطق، نحن اليوم بمسيس الحاجة إلى فهم جديد يتخطى تلك العقبات المعرفية، ويتجرد من القبليات الفكرية والمسلمات والثوابت، أو في أحسن تقدير أن نبعد المقدس عن ميدان الدراسة كي لا نفقده أصالته ونحرف مقاصد المؤلف التي أرادها منه.
إن ما أراه اليوم من حرب تقام ضد كل صوت وقلم وفكر يدعو إلى التجديد، أو عدم العناية وعدم الترويج وغض الطرف عن المنجز الفكري الجديد يؤكد صحة نظرتي إلى أن هناك منظومات كاملة تحرص الحرص كله على استمرارية هذا التيه وهذا الجهل، تعمل حثيثا على التجهيل وترسيخه. وما يدور في أروقة جامعاتنا في العالم الإسلامي بشكل عام وفي العراق على وجه الخصوص في مجال العلوم الإنسانية لا سيما أقسام اللغة العربية في الدراسات العليا – التي تكاد أن تتحول إلى حوزات دينية – من تناول موضوعات مستهلكة لا تجني أية ثمار تذكر مما جعل القائمين عليها من الأساتيذ الأفاضل في حالة تذمر شديد سببه تلك المرجعيات القبلية والعوامل الخارجية التي تتحكم في رأي الباحث.
اكتشفتُ بطريق المصادفة منهجا جديدا لفهم النصوص يقوم على منهجية غلق المدونات، وقد دلني عليه نقاش عابر مع أحد الباحثين ممن تقوده المرجعيات آنفة الذكر وهو ينوي أن يتناول في مشروعه البحثي – كما فهمت – نقد المجددين لفهم النص القرآني من المحدثين حيث أوحت لي نبرته أنه سيكتب هجوما وليس بحثا؛ لأنه بطبيعة الحال ذو مرجعية دينية مذهبية تحزبية مما ينتهي به الأمر إلى الدوغمائية المقيتة التي كانت ولم تزل تقف حجر عثرة في طريق المعرفة.
“المدونة المغلقة ” هي مصطلح تأسيسي يدعو إلى غلق المدونة، وهذا المفهوم هو إطار “للبحث العلميّ لفهم المدوّنات عبر إعطائها الاستقلال المعرفيّ أو العلميّ، وانتزاعها من الأحكام المُسبَقة في مرحلة فحص العينات وتحليل معطياتها أو مكوناتها. ونعتقد أنّنا بهذا ندعو إلى مرحلة جديدة من الوعيّ العِلميّ والحَضاريّ، يمثّل نقطة فارقة في فهمنا لتلك المدونات وأثرها العلميّ أو المعرفيّ إبداعاً أو تبعيّة”[2]. ويرى الدكتور حسن الأسدي أن أول المدونات التي لمس معها نتائج الغلق وفاعليته هو القرآن، ومن ثم كتاب سيبويه، والأمر ينسحب على بقية المدونات، وليس شرطا أن تدخل ضمن المقدس.
بعد غلقه لمدونة سيبويه في (كتاب سيبويه) يقول الدكتور حسن: “وعلى الرغم من هذا الأثر البالغ للكتاب ولصاحبه إلاّ أنّنا وجدنا بعد الغلق المنهجيّ سيبويه آخر مختلفاً عمّا تآلف عليه المعنيون قديما وحديثا، فخالفتْ نتائج قراءتنا ما ساد عن الكتاب وصاحبه لحقب متتالية امتدّت لألفٍ من السنين ومئاتٍ أخرى تلتها وكان فيها كشفاً عن نظرية نحويّة سيبويهيّة_ خليلية اختفت وحلّت محلّها أخرى خلطت نظريته بتصورات أخرى وهموم مغايرة لهموم صاحبها وأستاذه (رحمهما الله)”[3].
تعريف المصطلح
المُدَوَّنَةَ المُغْلَقَةَ منهج في البحث العلميّ يتأسس على عدّ النصّ أو النصوص المكتوبة (كتاباً أو غيره) موضع البحث المدروس مدونة ناجحة في إيصال ما ترغب ببيانه الى المتلقي، ولها استقلالها المعرفيّ والعلميّ في ذلك عبر ما تنحو إليه من خصوصيةٍ في عرض معلوماتِها وايراد مصطلحاتها. ولكي يفهم المتلقي هذه المدونة حقّ فهمها ويعطيها حقّها لإبراز نجاحها عليه أنْ يضع آليات منهجيّة تؤدي إلى فهم المدونة من نفسها لا من خارجها عبر الشُراح أو النّقّاد أو التنَاصّ المعرفيّ مع ما يحيط بها. وعلى هذا نرى أنّه على المتلقي الواعيّ ألاّ يتولّع بإظهار تبعيّة هذه المدوّنة لمحيطها ذاك الذي وُلِدتْ فيه، كما أنّ عليه أنْ يستلَّها مِن تراكمات قد تكون كثيرة غلّفتها عبر مسيرتها التاريخيّة بما أحدث معها الخالفون من شروح وإفادات وتحليلات واستلال في حقل المدوّنة العلميّ أو في غيره.[4]
علما أن هذا الغلق المنهجي لا يقتصر على المتون المؤسسة “بل يراد منه أن يكون تأطيراً لعمل الباحثين، ولا سيما في التّخصُّصات الإنسانيّة [لأنّ تخصصات العلوم الصرفة تكاد تعتمد هذا الغلق على نحو محترف بسببٍ من طبيعة انشغالاتها الخاصّة بعيّنات بحوثها، وبظروف مختبريّة أو بيئيّة شديدة التعلّق بتلك العيّنات].
مسوغات وغايات منهج الغلق
- من أولى مسوغات الغلق هو ظاهرة التراكم المعرفي الأفقي التي منيت بها التخصصات الإنسانية، ومن ميزة هذا التراكم أنْ تتجمعَ حول عيِّنة الدراسة سلاسلُ كثيرة من المعلومات قد لا يستطيع الباحث احصاءَها ولا تفحُّصها أو تمحيصها لكثرتِها، مما أدى إلى استيلاء صفة الترهُّل أو التضخّم لاشتمالها على كمٍّ هائلٍ من المعلوماتِ القديمةِ والمعاصرةِ عبرَ مساراتٍ تمهيديّةٍ وتفصيليّةٍ يُمكن الاستغناء عنها بوصفها جزءاً من الاطلاع المُتخصّص في حقل الدّراسة، وليس في كتابتها أو إيرادها في الدّراسة المُنجزة ما يفيد في تطوير الدراسة؛ فهي حشوٌّ لا يغني وتكرار لا ينفع، وقد أضحت ظاهرة بيّنة لا نحتاج إلى التفصيل في إثباتها.
- – ومن غايات الغلق الحدّ من الظاهرة المتفشيّة في ميدان الدراسات الإنسانيّة ، إذ ينبغي علينا العمل على إشاعة هذه المنهجيّة (أي: المُدَوَّنَة المُغْلَقَة) وإن لم يتمّ التقيّد بإجراءاتها الصارمة، وهذا هو الذي نعنيه بروحيّة المنهج وهو أنْ نُحدث غلقاً في تحليلاتنا وتأمّلنا لعيّناتِ دراساتنا.
- ومن المسوغات الأخرى هو غـضّ الطرف عن التناصيّة المعرفيّة أو التاريخيّة وغلوائها وترك الوقوع تحت سطوتها أو قدسيّتها السلفيّة التي وسمت العقليّة الإسلاميّة السائدة عموما في مجالات فكريّة وعلميّة شتّى بُنيَت على سلفيّة خير القرون، وبذلك نستطيع أنْ نقدّم قراءة للمدوّن ذاته لا لمتعلقات موضوعِه أو متعلقات صاحبِه وما حـفَّ بهما، فندع المدوّن ذاته يترافع عن قضيته.
- من الغايات الأخرى هو العمل على إثارة الدوافع لدى الباحثين المعاصرين لا سيما من بدأ مشواره البحثيّ حديثاً بأنْ تكون لعيّنة بحثه خصيصة الاهتمام، ومحور التحليل؛ وقاعدة التفريع والتفصيل؛ فيكون البحث عند ذاك أكثر إلحاحاً لإبراز المدوّنة (العيّنة) وخصائصها. ويجنب نفسه ألاّ ينشغل كثيراً بما يحِفُّ بعينته تلك من متعلِّقاتٍ أو مُقدماتٍ أوْ جهودٍ سابقةٍ فيجنّب دراسته مباحث وفصول وتفريعات تشغل معظم وقته، وقد لا تُبقي له من وقت يكفيه إلا جزءاً يسيراً لينشغل بعيّنة دراسته وقد وهَنَ وأعيا.
وتلك ظاهرة تمّ رصدها في الدراسات والبحوث المعاصرة، وكثيرا ما شكا أساتيذ في لجان المناقشة للرسائل العلميّة أو في تقويمهم البحوث للنشر العلميّ وللترقيات العلميّة من كمية الترهل بتلك المقدمات والتمهيدات، وندرة الأمثلة المقدّمة من العيّنة واختصارها الشديد المخّل. وكثيراً ما يُسأل الباحث أين عينة دراستك من كلّ هذا؟!!. وأين أنت منها؟!! ومعلوم أن اختصاص الاهتمام بالعيّنة وتحليلها سيميط هذين السؤالين التعجبيين جانبا. وبخلاف ذلك تجد تلك العيّنة تبدأ بالحضور في المبحث الثالث في بحث مكوّن من ثلاثة مباحث أو في الفصل الأخير من دراسة مكوّنة من ثلاثة أو أربعة فصول. أو تجدها قد أصبحتْ ذيْلاً للمباحث أو للفصول؛ وذاك أمرٌ يؤدي إلى تشتُّت البحث وعنايته بأمر ثانويّ مع فقر التحليل والاستنتاج الذي يُقدَّم فيه.
- مسوغ آخر هو غياب الرصانة العلمية، فقد افتقرت الساحة العلمية عامّة الى رصانة كان ينبغي ألاّ تغيب عنها. ولا يخفى علينا هنا وجود عوامل أخرى لضعف هذه الرصانة بيد أنّنا لسنا بصدد رصدها، وبيان تأثيرها في هذا الجانب.
من التوصيات:
- على الباحث المتخصص بعد اكمال عدّته البحثيّة والتخصصيّة، أن يقرأ أكثر ممّا يكتب وأنْ يحلّل أكثر ممّا ينقلُ، ويدركُ جيّدا أنّه غير معنّيٍّ بأنْ يَتناصّ مع تلك المقدمات الكثيرة، فالانشغال بعينة الدراسة يوفّر على الباحث الوقت للتأمّل فيها وتحليلها والاستنتاج منها. وأيضا الاقتصاد في المساحة الماديّة للمكتوب واكتناز المفيد في ظلّ تَوسُّعٍ في مساحتِه الإدراكيّةِ.
- إنّ علينا في مرحلة الفَحْص والتّحليلِ النظرَ إلى عيّنة الدّراسة بوصفها جوهرةً مكنونةً يرادُ منّا تقييم ثمنها بدقّة، فعلينا السّعي جاهدين إلى الكشفِ عن كلِّ تفصيلاتِ هذه الجوهرة والوَلعِ بدقائقها وكراهيَّةِ عموميات يشاركنا بها كثيرون، ومن ثَمَّ نَنظرُ نحن وغيرنا من المشترين لمثل هذه الجوهرة (وهي المُدَوّنة) وإلى نسقيّـتها مع محيطها بما تقيمُهُ من علاقات التّضامّ والتّعاضد والمُفارقة والتّناصّ المرضيّ أو غير المرضيّ وغير ذلك من علاقات. كلّ ذلك مَع من يشاركُنا هذا الكشف الذيّ لن يتأسس إلّا على ما نقدّمه في مرحلة الغَلْقِ المنهجيّ لعيّنتنا من تفصيلات عبر إمعان الفحص والتحليل.
ختاما أقول:
مع هذا المنهج الجديد لفهم النصوص وتفسيرها، الذي يمكن أن يخرجنا من قوقعة المقدس ودائرة الخطوط الحمرء، ويمكن أن يقرّبنا أكثر إلى الموضوعية المتوخاة من أي بحث علمي، إلا أنني أراه خطوة في بداية الطريق، ما زلنا لو تناولنا نصا مقدسا كالقران وأغلقناه سنظل راضخين إلى اعتبارات كثيرة، الفرد المسلم حين يكون باحثا لن يسلم من القيود الفكرية، ولكنها كخطوة نحو تحرر النصوص جديرة بالإشادة والفخر، وأشد على أيادي القائمين عليها والسائرين على خطاها.
المدونة المغلقة صدرت كتابا تحت عنوان: “منهج المدونة المغلقة، مباحث تأسيسية لتفسير القرآن بالقرآن”، لمؤلفها الأستاذ الدكتور: حسن عبد الغني الأسدي.
بقلم: منتهى البدران/ العراق.
[1] ) فهم النص وإشكالية التطابق، يحيى محمد.
[2] ) المُدَوَّنَةُ الْمُغْلَقَةُ وَالْبَحْثُ العِلْمِيُّ، الأستاذ الدكتور حَسَن عَبْد الْغَنِيِّ الأَسَدِيّ، أستاذ اللغة العربية في جامعة كربلاء – العراق، https://uokerbala.edu.iq/archives/12094
[3] ) المصدر نفسه.
[4] ) المصدر نفسه.