وعي الشعوب – الجزء الثاني – ماهر سلطان
جذور تشكيل وعي الشعوب
قد يتصور البعض أن معرفتنا بظواهر الاشياء يمكن أن تمنحنا وعيا حقيقيا ولكنه ليس دقيقا ومحيطاً بكل التفاصيل، او لنقل وعياً ولكنه وعي منقوص وغير كامل، وبعضنا يعتقد أن معرفة ظواهر الأشياء وتجلّياتها الأخيرة لا تحكي حقيقة الأشياء ولا تمنح وعياً حقيقياً بل هو مجرد نوع من الادراك والمعرفة السطحية للامور. فالوعي إذن كما اعتقده هو ما يحصل بعد التحقيق في الأشياء وتفكيكها والتعرف على جذور تلك الظاهرة السياسية او الاجتماعية او الاقتصادية او اي ظاهرة أخرى.
ولمّا كنا نبحث في هذه الصفحات عن وعي الشعوب وبالاخص عن وعي الشعب والمجتمع العراقي وكيف تمت تغذيته وتشكيله وأي الثقافات والظواهر التي كانت أكثر تأثيراً فيه، فلابد أن نعترف أن الثقافة الدينية هي أكثر وأهم ثقافة أسهمت في تشكيله، وإن كانت أوجدت فيه بطريقة هادئة وطبيعية ومنسجمة مع حياة الفرد العراقي مما لا يشكل ضغطاً عليه إذ هي التزام طقوسي متشعب ومطالب به مجتمعيا بقي الحال هكذا حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبا, حين بدأت تصل اليه أمواج الصحوة والنهضة الإسلامية التي أخذت تتمظهر على شكل أحزاب لها حراك ديني وسياسي في الوقت نفسه بعد ان انبثقت في مصر على إثر انهيار الدولة العثمانية وسقوطها رسمياً واعلان الدولة التركية في ٢٣ أكتوبر سنة ١٩٢٣ على يد( مصطفى جمال اتاتورك ) الرجل العلماني الذي اعتبرته الحركات والتيارات والتنظيمات الإسلامية عدوها الأول والمجرم الأكبر في التاريخ, فكان لزاماً علينا من هذا المنطلق أن ننقب قليلاً في اديولوجية هذه الصحوة والنهضة الإسلامية للتعرف على شيء من حركتها التاريخية وأهم ميزة وركيزة اعتمدت عليها في تثبيت جذورها في العالم العربي والإسلامي.
كان همُّ المنظّرين الأوائل لهذه النهضة الإسلامية أمثال جمال الدين الافغاني وتلميذه محمد عبده، هو ترسيخ المنهج وإرساء الأسس الأولى في حركة هذه النهضة التي تمثلت في تمحور الأسلام حول الدولة وتنشيط التيارات الإسلامية في مؤسسات الدولة الحديثة دون الصدام معها او الدخول في معارك ونقاشات في تفصيلات الأحكام، او إحداث صراعات مجتمعية بين الاديان والمذاهب المختلفة في المجتمع، حتى آل الأمر إلى ظهور تنظيم (الاخوان المسلمين) على يد المرشد الأول الشيخ حسن البنّا.
مرَّ هذا التنظيم في مخاضات كثيرة في الواقع المصري, حيث اختلفت الرؤى والأقوال في شرعيته وتمويله واتهامه في اساليبه للوصول إلى البرلمان والسلطة في نهاية العهد الملكي، واستعماله من قبل الملك والشخصيات والاحزاب السياسية ومحاباته ومماهاته لهم بالمقابل، وبعد تأثر المرشد شخصياً بالزعيم الألماني اودلف هتلر ومنهجه في توقير العنصر الآري الجرماني وحبه للقوة واشادته بالاسلام وانه دين قوة لا يقبل بالخنوع، ويمكن التعامل مع جماعاته وقادته للوقوف بوجه بريطانيا وفرنسا أعداء المانيا, كما يذكر محمد حسن المؤرخ والكاتب الصحفي، ورئيس مجلس إدارة دار التحرير, ورئيس تحرير جريدة الجمهورية سابقًا في كتابه “من قتل حسن البنا؟” إذ نشر نصا كوثيقة من أرشيف وزارة الخارجية البريطانية، تحمل رقم 23342.O.F بتاريخ 22 أكتوبر 1939، تنص على أن السلطات المصرية، بإيعاز من الاحتلال البريطاني، فتشت مكتب الملحق الصحفي الألماني ومدير مكتب الدعاية النازية بالقاهرة ويلهام ستلوبجن ووجدت فيه خطابًا يفيد بتسليم مبالغ مالية لحسن البنا، مرشد تنظيم الإخوان([1]).
السؤال الجدلي
بعد هذه الصراعات كلها, والتجاذبات السياسية والمجتمعية وصل تنظيم الاخوان المسلمين إلى ذلك المنعطف الخطير، بعد ان طرحت هذه الجماعة السؤال المفصلي والحدّي على لسان الشيخ محمد الغزالي القائل :
هل جماعة الإخوان المسلمين هم (جماعة المسلمون) او هم جماعة (من) المسلمين ؟
كان هذا السؤال الكبير يترتب عليه كفر وعدم قبول اسلام المجتمع لو تقرر أن جماعة الإخوان هم (جماعة المسلمون) وحدهم دون غيرهم، فيحرم الخروج عليهم ومعارضتهم، بل يجب الانضمام إليهم ليتحقق اسلام المجتمع، في الشق الآخر من السؤال كون جماعة الإخوان هم جماعة(من) المسلمين فلا يترتب عليه كفر المجتمع الذي لا ينضم إلى الإخوان ولا يحرم معارضته ويكون حزبا كباقي الاحزاب الإسلامية له اديولوجيته التييتمسك بها, ويسير على منهجيته كحزب ديني تربوي وسياسي بنظرة واضحة، وطموح مشروع في حق الوصول إلى السلطة، او تشكيل معارضة وطنية بصيغة وآديولوجية دينية.
وصل هذا الجدل إلى داخل اروقة جماعة الإخوان حتى مجيء سيد قطب ليعلن أن الإخوان المسلمين هم (جماعة المسلمون) إذ حكم بتكفير المجتمع وذكر أن كلمة دين في معناها القديم في الحضارة المصرية تعني (نظام الحكم)، فسيد قطب كان واضحا بأن الدولة والنظام السياسي ما لم يكونا بتطبيق الشريعة لا يصح ان يكون دولة ويحرم اتباعها والعمل فيها والرضوخ لحكمها، وكل من قَبِل بذلك فهو ليس بمسلم يجب محاربته، بهذا الشكل تم تكفير المسلمين داخل وخارج مصر حيث تصاعدت حركة التكفير والتفجيرات والعنف ضد أبناء البلد بدم بارد وبحجة شرعية صاغها لهم المنظّر الثاني لجماعة الإخوان( سيد قطب ) حيث أثار حفيظة الرئيس جمال عبد الناصر فقدمه للقضاء وحُكِمَ باعدامه، ولكن فكره التكفيري للمجتمعات المسلمة، ووجوب قيام الدولة التي تحكم بالاحلام الإسلامية دون غيرها من الأحكام والمنهجية المدنية والعلمانية عشعش في صدور وعقول ثلة كبيرة من الاتباع والمريدين من الشباب المسلم، في ارجاء الوطن العربي او الناطقين بالعربية وغير العربية، وأهمها في إيران خصوصا بعد نجاح الثورة الإسلامية فيها.
لأجل هذا الاتفاق في البعد الابديولجي كان من الطبيعي أن يقوم المرشد الحالي السيد الخامنئي بترجمة الجزء الأول من كتاب (في ظلال القرآن) وكتاب (المستقبل لهذا الدين) لمنظّر الإخوان الثاني (سيد قطب) من العربية إلى الفارسية. كما لا يصح استغرابنا فيما لو علمنا أن كلمة المرشد التي كانت تطلق على الشيخ حسن البنّا التي استساغها حسن البنا نفسه كثيرا كلقب من القاب زعيم المانيا المجنون ( اودلف هتلر ) بعد ان تأثر به كثيرا وبشخصيته.
فلا يُعدُّ من المفارقات العجيبة ان تجد كلمة ولقب (المرشد) انتقلت الى أعلى زعامة في الجمهورية الإسلامية في إيران المتمثلة بزعامة ولي الفقيه، فهو المرشد العام للثورة الإسلامية. اذا علمت عمق العلاقة والتفاعل الذي حصل بين تنظيم الاخوان وقادة الثورة الإسلامية في إيران الذين كانوا يحملون همّ الإسلام السياسي الشيعي، على أثر حركة وافكار جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وحسن البنا وسيد قطب .
بعد هذه اللمحة السريعة لأحد أهم المؤثرات في الوعي الشعبي إرتأيتُ إلقاء الضوء على نقطة جوهرية صدّرتها جماعة الإخوان المسلمين تكاد تخفى على كثيرين ممن تعاطى مع هذا التنظيم السياسي الإسلامي بنوع من السطحية والبراءة، ربما يستغرب القارئ ذكرها هنا, وربما يتساءل ما علاقتها بوعي الشعوب الذي نحن بصدد الحديث عنه!.
فهي نبذة مختصرة عن هذه الجماعة وأفكار منظريها, حيث اشترك جماعة الإخوان مع فكر التيار المتشدد والعسكري في إيران في زرع جماعة من داخل المجتمع تكوّن بأفكارها مجتمعا موازيا للمجتمع الأكبر, ولها قوة موازية لقوة الدولة, حيث تتميز عن بقية الحركات والأحزاب بأنها لا يمكن أن تخضع لمؤسسات الدولة الحديثة؛ نظراً لأنها تحمل آديولوجية شمولية متعالية إقصائية لكل ما عداها، إذ ترى كلَّ مخالف لها محكوما بالرِّدَّة عن الإسلام وخارجا عن حريمه ولها أن تقصيه وتصفّيه بأيّ شكل من الأشكال, بأدبيات دينية وأحكام شرعية, لا يمكن أن تخضع لمنطق الدولة؛ لأنها:
أولاً: لا ترى دولة بدون (حكومة إسلامية) تفسرها طبق آديولوجيتها وفهمها (للدولة والإسلام) فهي تتعالى على كل مؤسسة تحاول مراقبتَها أو إخضاعَها للمساءلة والنقد والمحاسبة, حتى القضاء المدني لا تراه نافذا في حقها، ولها أن تشكّل ضغطاً عليه لحرفه عن مساره القانوني؛ لأنه في نهاية المطاف لا يمثّل حكم الله ولا حكم المرشد الإسلامي العام أو الوسيط الشرعي الإلهي أو ما يعبر عنه بالولي الفقيه عند بعض فقهاء المذهب الأمامي, فهي تتبع أوامره. أو أوامر القائد المباشر لجماعتها دون الانصياع لأوامر الدولة ورئيسها أو رئيس وزرائها أو قضائها.
أرى أن ما تقدم ذكره من أخطر ما أفرزته هذه الحركة وهذا التنظيم …
يتبع…
[1]) ) مقال الإخوان والنازية.. قصة المراسلات السرية بين هتلر وحسن البنا, للكاتب إيهاب عمر https://marsad.ecsstudies.com/25656/ .