ثورة تشرين العظيمة – ماهر سلطان
الجزء الثاني والأخير
ثورة وعي…
ثورة شعب أراد وطنا…
ماهيّة تشرين
هي انتفاضة شعب ضد مظاهر الفساد التي انتشرت في مفاصل الدولة والمجتمع كلها بفعل قادة الكيانات السياسية ومن اتصل بهم، التي هيمنت على المشهد السياسي بعد عام ٢٠٠٣ في العراق.
لو تكلمنا عن جوهر انتفاضة تشرين وباطنها، فهي أول حَراكٍ شعبي يعبّر عن ضمير الشعب بأغلبيته العظمى لإرادة الانقلاب الفكري على كل الامراض التي استشرت في المجتمع العراقي بعد الخروج من الاحتلال العثماني والإنجليزي في بدايات القرن الماضي وأواسطه.
لقد اختلف هذا الحَراك وهذه الانتفاضة عن كل أنواع الانتفاضات السابقة عليه في وطننا العراق الحبيب، فحقيقة الثورات والتظاهرات والانتفاضات السابقة عليه، على الرغم من مشروحيتها واحقيتها الا انها كانت مطلبية جزئية، تتصدى لموقف عدواني او خطأ من قبل المحتل او الحكومات، كما أنها عبّرت عن رفضها بالسلاح في كثير منها، او قامت من الخارج عن طريق المعارضة المنفيّة المغتربة، التي لم يكن لها بالضرورة ذلك الأثر الكبير في انهيار الانظمة التي حكمت البلاد.
بينما اتسم حراك الشعب في تشرين في كونه القوة في السلم وقوة في المطالبة بوطن حديث لا مكان فيه للحاكم والسياسي الذي ينطلق من منطلقات قَبَليّة او (دينية انتهازية) او حزبية ضيقة تنظر إلى أفراد الحزب قبل الشعب او إلى المتدين قبل غيره او إلى ابن العشيرة قبل ابن المدينة ، فكان فيها الحزبي الذي أراد للعراق أن يكون دولة فيها أحزاب، ومتدين يرى الدولة لا دين لها وهي خيمة الجميع، وكان فيها ابن العشيرة الذي يسعى إلى فرض قانون الدولة على عشيرته وباقي العشائر على حدٍ سواء، كانت تشرين نداء الى (الوطنية الخالصة) لا الوطنية المشوبة بأولوية حزبية او دينية او قَبَلية، فالحرية التي طالبت بها تشرين حرية مقننة بقانون مدني منضبط ينتفع منه الجميع وفق القوانين والدستور العراقي المدني، إذ لم تكن تشرين ضد الحزب او الدين او القبيلة كما يحاول المؤدلجون بتلك الاديولوجيات تصوير ذلك للسذج من الشعب لمحاربة تشرين واتهامها والتهجم عليها وتشويهها.
أدركت تشرين في لحظاتها الأولى أن السلمية هي الخيار الواعي الذي يضمن لها الاستمرار بعد ان استفادت من انتفاضة شعبان ومن صاحبها من مظاهر العنف والسلاح والحرق والسب والنهب والتصفيات الجسدية لمن تواطئ مع النظام السابق او أُشتُبِه به او من كانت له عداءات شخصية مع بعض المنتمين إلى البعث وغيرهم، فالأنظمة الدكتاتورية والمؤدلجة لا تسمح في مثل هذه التظاهرات الشعبية التي تهدد وجودها، لا فقط منهجها وأساليبها في الحكم.
انا هنا لا أرغب بعقد مقارنات مع ما وقع من تظاهرات في الولايات المتحدة وفرنسا وكيف تعاملت معها الحكومات هناك، وبين ما وقع في العراق وفي تشرين تحديدا؛ كي لا أُتّهم بأني مؤيد للسياسة الامريكية او الأوربية بشكل عام. ولكن اقول إن تشرين تدرك تماما أن السلمية التي تمثلتها وظهرت بها كانت نابعة من فهم حقيقي لوحشية هذه الانظمة عند شعورها بالتهديد الوجودي لها، وكان التاريخ العربي والتركي والايراني حاضر أمامها وواضح كل الوضوح.
من الذي وقف بالضد من تشرين؟
قد يقال ان في التفصيل يكمن الشيطان، وهي عبارة قد نتفق معها في احايين كثيرة ولها نوع من المصداقية بلا شك، ولكن في التفصيل يكمن الوضوح وفرز الاوراق كي لا يباع الأخضر بسعر اليابس كما يقال، فهذا الغموض والخلط والضبابية التي تكتنف المصطلحات والسرديات والشعارات هو في حد ذاته مطلوب لمن يريد التجهيل والتسطيح للوعي الجمعي للمجتمع، وعليه ارتأينا أن نبين بنوع من التفصيل الرباعي من هي المجموعات التي تنكرت لتشرين ووقفت بالضد منها.
الفئة الأولى:
السلطة القائمة آنذاك، التي كانت تمثل أحزاب الإسلام السياسي بكل تشكيلاتها المدنية والمسلحة المؤدلجة في الايديولوجيا نفسَها.
الفئة الثانية :
الأعم الأغلب من أتباع هذه الاحزاب؛ لشعورها أن تشرين تستهدف ايديولوجية الإسلام السياسي فقط، وغاب عن وعيها الهامش الكبير الذي كانت تشرين تنادي به من رفض كل من لا ينتمي للوطنية الخالصة بغض النظر عن آيديولوجيته.
الفئة الثالثة :
الأحزاب غير الدينية التي اشتركت في السلطة بشكل فاعل وتقاسمت البلد فساداً وعدواناً بأجندات خارجة عن الإطار الوطني، فهي كذلك ارتعبت من تشرين حيث كانت تهدد وجودها كذلك.
الفئة الرابعة :
هي الفئات الاجتماعية التي تخشى التغيير وتنظر اليه على أنه محو للشخصية والمجتمع العراقي، فهم مجاميع ترفض اي تغيير دون علم ودراية وتحليل ودراسة، فكل وضع فاسد وكارثي يمر به المجتمع يكون بالنسبة لهم افضل من حالة التغيير حتى وان كان نحو الأفضل او يصب في مصلحتهم ويحقق ما يحلمون به، فهم يعيشون القلق والحين والظلم والتهميش ولكنهم يفضلونه على المجهول الذي سيأتي به التغيير والثورة وبعد أن فقدوا الثقة في اي ثورة وتظاهرات في الربيع العربي او في العراق حيث تم قمعها او تشويهها او ركوبها من قبل المنتفعين والانتهازيين والعسكريين، مما أودى بالبلدان إلى أسوأ مما كانوا عليه قبل تلك الثورات والتظاهرات.
أريد هنا أن أختم هذا المقال المطول الذي كنت مجبرا فيه على الإطالة.
فأقول: إن تشرين التي مثلت الضمير الشعبي العراقي المدني بكل اطيافه وانتماءاته قد يكون ذلك كثير وكثير من أبناء الشعب مع من تعاطفت القبيلة معه فكانوا بحق كمن قلبه معك وسيفه عليك، نعم لم تكن سيوفهم تسقيطية او اتهاما او قتلا او حتى قبولا لما يقال عنها من اعدائها، لكنهم تركوا الشباب فيها في الشوارع والساحات دون أن يقفوا معها باجسادهم وعوائلهم في تلك الشوارع والساحات ودون أن يحموهم من تلك المجازر لا سيما عشائرنا العربية العريقة التي كانت تملك كل قوة الحماية وهي ترى ابناءها يسقطون كل يوم وفي كل مكان، أما ما يقال عن سلبيات تشرين العظيمة الباسلة من كونها لم تنظم نفسها ولم تفرز قيادات وتشكيلات منظمة فأقول:
إن تشرين البريئة الفتية كانت لا تمتلك الخبرة والتجربة الكافية في هذا المجال وكانت تنتظر العقليات السياسية والتنظيمية في تحمل تلك المسؤولية التاريخية في تلك اللحظة التي بزغت فيها تشرين وقالت كلمتها الصادقة …نريد وطنا أو (انريد وطن).
مصدر الصورة – وكالات اخبارية والأنترنيت