انثيال * – الأكف – القسم الثالث – هيثم بهنام بردى
انثيال “*” —- [ الأكف ] القسم الثالث: • هيثم بهنام بردى
ما يخطه الآن يبدو وكأنه كان حلماً وهو يعيش هذه الوقائع، وفي خلواته -وقد تقدم به العمر-، يعتقد، بل يجزم أن الواقع والافتراض وجهان لعملة واحدة، وأنه عاش تلك اللحظات في حلم… إن كان في المنام أم في اليقظة، وأيا كان فهو موقن أنه عاشها في الحالتين، وأحياناً وخاصة في الحدثين الأولين كان يحدث أنداده وكأنه يقص عليهم حلماً لم تقطعه اليقظة المفاجئة، بل كان حلماً بتفاصيل كاملة، ولكنه وهو يلمح تلك النظرة الدهشة من عيونهم، هم الذي عاشوها وكان بمعيتهم بكل تفاصيلها، إن كان والده أم زملاءه التلاميذ، -ما خلا الأخيرة، التي سيأتي ذكرها في نهاية المطاف لن يستطيع أحد تأكيدها أو نفيها لأنه كان لوحده حينها-، ولم يخرزه أحد ممن ورد ذكره أعلاه، كمن به عته ذاكرتي، لأن ما يقصه عليهم كحلم عاشوه معه كواقع لا يمكن أن ينسى، وأياً كان الأمر فهو سيسرد ما عاشه في تلك الدقائق الهاربة من أعطاف الزمن وبتسلسلها الزمني… كما عاشها في حلم كما يظن، والعلم كما يؤكدها من عاشها معه…… ويواصل سرد حادثة الكف الثالثة. صيف عام 1973 لليوم الثاني لما يزل مأسوراً بتفاصيل الفيلم الذي شاهده صحبة شقيقه الأكبر من على شاشة تلفاز محطة الموصل، حيث كانت تعرض بين يوم ويوم فيلماً مصرياً وكان ذلك الأمر مصدر فرح لهما إذ يبكر الوالدان والأشقاء الصغار إلى الصعود لسطح الدار وإلتحاف السماء البلورية التموزية الصافية ويتلهي الأخوة الصغار بعّد النجوم وتتبع طريق السلطان “شوب دشلطانة” -تلك الهالة البارقة التي تشبه الأشعة التي تخترم سقوف الأهراء المسقفة بالآجر كي يدلقوا في مواسم الحصاد حبوب الحنطة والشعير لتستقر في الأرضية المفروشة بأبسطة محاكة من قماش “الجابان” ومن ثم يتم وضعها في براميل نحاسية كبيرة للتهيئة لجرشها على هيئة برغل وحبية للموسم الشتائي الطويل، وشوب دشلطانه هذا الذي ترصده عيون الأطفال الناعسة وتتصور تفاصيله بمخيالها كلٌّ حسب تصوره يشبه تماماً ذلك الضياء البارق الذي يطفر من الفضاء نحو أرض السرداب وتتوالد منه تفاصيل دقيقة من نقاط بارقة تجاورها شقيقة معتمة تجعل جنبات السرداب تتلبس هيئة باذخة الغموض والسحر والجمال… وكانت تلك الليلة مائزة بالنسبة إليه حين قرأ في “التايتل” الذي يفصح عنواناً شدّه كثيراً (اللص والكلاب) وشدّه أكثر أن الفيلم مأخوذ من رواية الكاتب المصري (نجيب محفوظ) ولكن ما أثار انتباهه وجعله يتساءل في دخيلته وتعاظم هذا التساؤل بعد أن انتهت أحداثه أن كاتب السيناريو هو (صبري عزت وكمال الشيخ)، وأن الحوار كتبه (صبري عزت) ولم يكن لديه أي ملاحظة على المخرج كمال الشيخ، ولعل وجود اسمه كمخرج للفيلم كان دافعاً له لمتابعة الفيلم بكل دقائقه نظراً لما يتمتع به هذا المخرج الماهر من كفاءة ورؤية ناضجة، ورغم أن الفيلم أعجبه من الألف إلى الياء بمساحة زمن عرضه الذي جاوز الساعتين وبراعة الثلاثي (شكري سرحان، شادية، كمال الشناوي) وفنانين آخرين، وتعاطف مع سعيد مهران الذي جعلته الحياة وقسوتها لصاً تخونه زوجته وصديقه ويقتل في النهاية إلاّ أنه أحس أن ثمة شيء يعوز الفيلم، ليس لأنه غير متماسك في ينيانه، ولكن ولأنه لنجيب محفوظ الذي قرأ جلَّ رواياته باستثناء هذه التي يسمع بها للمرة الأولى من خلال الفيلم وخبر معالجاته الفكرية والنفسية والبنائية والدرامية توصل إلى هذا الاستنتاج، فكان همه في اليوم الذي يلي المشاهدة أن ذهب إلى المكتبة وبحث في اللائحة المسمرّة على الجدار الخشبي فوجد معظم روايات محفوظ متوفرة باستثناء هذه، وعندما عاد للبيت خالي الوفاض كانت أحداث الفيلم تطرق بمهاميزها ذائقته البكر اللجوجة فطرقت ذاكرته فكرة حالما دخل الوالد ليلاً بعد أوبته من المقهى فجلس إلى جواره وصار ينظر إليه بنظرة فك الوالد طلاسمها مباشرة لخبرته في حل كنهها فقال له. – قل…؟ أحجم عن الفكرة وهمس. – لا شيء بابا. ولكن ابتسامة الوالد وهو يقول. – تعال من النهاية واسأل عن مبتغاك. جعلته يتشجع فقال. – أريد أن أذهب معك إلى الموصل. فسأله الوالد معجباً. – خير؟!. – أريد أن ألتقط صوراً شخصية من أجل وثيقة التخرج من الاعدادية بغية التقديم للجامعة. – يوجد مصور هنا. – أريدها من ستوديو “كوفاديس” بالموصل. بعد أن صفن والده لفترة تذكر أنه لبى طاباً مماثلاً لإبنه البكر قبل أسبوع فقال. – حسناً ستأتي معي غداً. وفي الصباح الباكر وجده الوالد ينتظره في الحوش بكامل لياقته وحين جلسا للفطور في الطارمة سألت الوالدة والده. – يقول أن سيأتي معك؟ – أجل. – لماذا؟ – كي يلتقط صوراً من أجل التقديم إلى الجامعة. وكررت الأم ملاحظة الوالد ليلة أمس فتكفل الوالد بالإجابة. – نعم هناك مصور في “بغديدا” ولكن يريد صوراً فنية.. وعندما عبر الجسر الحديدي الاسطوري نحو المدينة العتيقة ووصلا إلى مصرف الرافدين في شارع نينوى حيث يعمل الوالد، كانت الثلاثة دنانير تزدهي في جيب بنطاله الجانبي وسمع الوالد يقول له. – في الثانية بعد الظهر أجدك في عين المكان الذي نقف فيه الآن. – نعم بابا. وفي الثامنة صباحاً غيّب المدخل الزجاجي الدوار جسد الوالد فوقف على الرصيف يتأمل في الوقت المتاح له فوجده ست ساعات كافية لإتمام ما انتوى عليه في الخفاء وهو متمم لما عزم على تنفيذه في العلن، فقرر أن يبدأ مشواره بالمعلن فتناهبت أقدامه الأرصفة نحو الشارع العريض الذي تتوسطه جزرة وسطية مشجرة تبتديء من “الفلكة” التي تتوسط المحافظة ومدخل شارع الدواسة وينتهي ب”الفلكة” التي تفضي إلى الجسر الجديد الذي يقابل حديقة الشهداء والمكتبة العامة وفي وسط المسافة بين الاثنتين ومقابل السينما العريقة كان ستوديو كوفاديس يتثائب عن صباح صيفي جديد وفي جوفه يجلس رجل في أواسط العمر منهمك في قص الصور… كانت الصور التي استلمها من كوفاديس غاية في الوضوح والجمال وكأن وجهه يريد أن يطفر من الورق ويذوب في سيماءه المندهشة والمعجبة بالشعر المنسرح والعينين الناعستين والقميص المشجر، فوضع الصور في جيب قميصه رفقة الدينارين والنصف المتبقية وعاد بخطواته نحو مدخل شارع الدواسة، وفي العطفة التي تودي إلى المبتغى صادفه مطعم الوجبات السريعة فدخله وحشا جوفه بلفة سندويتش لحم مخ ثم شرب “استكان” شاي ثم تناهبت قدماه المسافة المتبقية نحو المكتبة الكائنة جنب سينما أطلس ولحسن حظه وجدها مشرعة الباب فولجها على وجه السرعة وصارت عيناه تلتهمان العناوين وأصابته الخيبة بعد دقائق إذ وجد الكثير من الروايات لكتاب عرب وأجانب ووجد الكثير من روايات نجيب محفوظ، ولكنه للأسف لم يحظ بمبتغاه فاتجه بكليته نحو الرجل الأربعيني الذي يجلس على مكتب صغير وسأله. – هل أجد رواية (اللص والكلاب) وقبل أن يذكر اسم المؤلف قاطعه صاحب المكتبة. – نجيب محفوظ؟ – نعم أجابه الآخر. – موجودة؟ ثم اتجه إلى أحد الرفوف التي مرت بها عيناه، وسحب منها ما يريد ووضعه على الوجه الزجاجي لمنضدته وقال. – وصلت للموصل قبل أيام رغم صدورها قبل أكثر من عشر سنوات. ثم همس وهو يقول. – سعرها نصف دينار وهو يمعن النظر ويخمن بأن هذا الشاب اليافع سيخرج من المكتبة على الفور لغلاء السعر ولكن تخمينه ذهب أدراج الرياح حين أخرج من جيبه ورقة فئة النصف دينار واستلم الرواية والفرحة قارب تائه في يم هائج لمح الخلاص في الفنار المعلق في الأفق، ثم ينبر بحرارة. – شكراً جزيلاً. ثم توقف لهنيهة وسأل صاحب المكتبة. – هل أجد مكاناً هادئاً أستطيع فيه أن أقرأ؟ فخرج الرجل من مكتبه نحو الرصيف وأشار الى مدخل يفضي إلى سلّم وقال. – هذه مقهى يؤمها المثقفون والرياضيون، بها قاعة بلياردو ومكتبة صغيرة تعج بالمجلات والصحف، وفيها تستطيع أن تقرأ بهدوء. وحالما وضع النادل فنجان القهوة برائحتها المهيّلة أمامه جنب قدح من الماء حتى قلب الصفحة الأولى من الرواية وعيناه تحدقان في عقارب الساعة المعلقة على الحائط قبالته والتي كانت تشير إلى الساعة العاشرة صباحاً، وصارت مناجل ذائقته تحصد السنابل التي اينعت وأثمرت في ذاكرة محفوظ. ووجد القدح الثاني من الشاي الذي طلبه بارداً فجرعه دفعة واحدة وعانقت عيناه عقارب الساعة التي كانت تشير إلى الواحدة بعد الظهر فتعجب من نفسه كيف أنهى الرواية بثلاث ساعات وفنجان من القهوة يرادفاه كوبان من الشاي، ووجد بعد تفكير عميق صدق ما كان يشك به حين طوى الصفحة الأخيرة من الرواية ومع ما طوته ذاكرته قبل يومين حين عانقت عيناه كلمة “النهاية” من الفيلم، واستنتج بدهية يؤمن بها تقول: مهما أوتي لكاتب السناريو والحوار من قدرة على تجسيد الحدث فبالتأكيد لن يصل إلى ما يريد المؤلف قوله، وعليه إن وافق أي روائي في تحويل إحدى رواياته إلى فيلم سينمي ينبغي أن يكتب هو السيناريو والحوار… وحالما تلقفه الرصيف من جديد وهو يحتضن الرواية بحميمية وجد أمامه مطعم “الكهف” المعروف، فولجه وبتخطيط مسبق في الأمر وطلب طبقاً من “قوزي الشام” الذي يشتهر به المطعم وكان اقباله على التهام الطعام يضاهي تماماً التهام فؤاد المهندس في الفيلم الكوميدي الذي شاهده قبل أيام، وحين شعر بأن الوقت صار عجلة يركض خلفها أيقن أن عليه أن يكون بعد نصف ساعة أمام المصرف ووجد أن الأمر مرسوم كما هو ومشى على الرصيف يتملى المحلات والمارة وظلال المشاة تتطاول وتتقزم طبعاً لموقعها من الشمس الصيفية القائظة، وفي “الترافيك اللايت” الذي يقابل سينما أطلس وأمام “ستوديو مراد” الشهير لفت نظره وهو على حافة الرصيف سيارة فارهة تقف تلبية للإشارة الحمراء وحين خطف نظرة خاطفة وجد وجهاً انثوياً في العقد الرابع من العمر ترتدي غلالة تشبه تماماً غلالة الممثلة التي جسدت أم الممثل “شامي كابور” في الفيلم الذي رآه قبل شهر وفي جبينها ثمة بقعة حمراء تعرف بها نساء الهند فأيقن أنه إزاء حلم لا يمكن أن يصدقه وتيقن أن ما يعيشه خلال هذه اللحظات حقيقة وليس حلماً حين التقت عيناه بعيني جليسها على المقعد الخلفي للسيارة الفارهة وعرفه: انه المحافظ الذي لا يمكن أن يغيب عن باله، فقد شاهده في أخبار البارحة في التلفاز، فحوّل عينيه نحوها- وهو على بعد خطوة واحدة- من نافذة السيارة المفتوحة، فواتته جرأة دافقة وهمس. – هلو مس انديرا… فكانت إجابة دبلوماسية شنفّت سمعه. – هلو. وممسوساً لما يزل، وهو يمد كفه، فأخرجت كفها وصافحته..، ثم تحركت السيارة تلبية للون الأخضر في “الترفيك لايت”، وبقي هو واقفاً، صامتاً، ملجوماً، مذهولاً، مثل التمثال، وأنشأ يضم كفه اليمنى متحققاً من أثر الكف الأنثوية لإنديرا غاندي أشهر رئيسة وزراء هندية…..
الأحد 10/ 10/ 2021
“*” معجم المعاني: – انثالت عليه الأفكار: تتابعت فلم يدر بأيها يبدأ. – وانثالت عليه العبارات: تتابعت وكثُرت فلم يدر بأيها ينطق.