انثيال – الأكف – القسم الثاني – هيثم بهنام بُردى
ما يخطه الآن يبدو وكأنه كان حلماً وهو يعيش هذه الوقائع، وفي خلواته -وقد تقدم به العمر-، يعتقد، بل يجزم أن الواقع والافتراض وجهان لعملة واحدة، وأنه عاش تلك اللحظات في حلم… إن كان في المنام أم في اليقظة، وأيا كان فهو موقن أنه عاشها في الحالتين، وأحياناً وخاصة في الحدثين الأولين كان يحدث أنداده وكأنه يقص عليهم حلماً لم تقطعه اليقظة المفاجئة، بل كان حلماً بتفاصيل كاملة، ولكنه وهو يلمح تلك النظرة الدهشة من عيونهم، هم الذي عاشوها وكان بمعيتهم بكل تفاصيلها، إن كان والده أم زملاءه التلاميذ، -ما خلا الأخيرة، التي سيأتي ذكرها في نهاية المطاف لن يستطيع أحد تأكيدها أو نفيها لأنه كان لوحده حينها-، ولم يخرزه أحد ممن ورد ذكره أعلاه، كمن به عته ذاكرتي، لأن ما يقصه عليهم كحلم عاشوه معه كواقع لا يمكن أن ينسى، وأياً كان الأمر فهو سيسرد ما عاشه في تلك الدقائق الهاربة من أعطاف الزمن وبتسلسلها الزمني… كما عاشها في حلم كما يظن، والعلم كما يؤكدها من عاشها معه……ويواصل سرد حادثة الكف الثانية.الكف الثانية:خريف عام 1966ثمة أجواء غير طبيعية تسود المدرسة، فالمعلمون في مجيء ورواح ما بين صفوف السادس بشعبها الثلاثة والتي يربو عدد تلاميذها على المائة وما بين بوابة المدرسة حيث المدير يقف على عتبتها ويعطي ملاحظاته للسعاة والمعلمين بوجه كله اهتمام بالغ، والصف في فوضى عارمة من الضوضاء والحركة وذلك لتأخر دخول المعلم، كل هذه الامور التقطتها ذاكرته وهو يتقصى دقائق ما يحدث من خلال نافذة الصف حيث يجلس جوارها، فلكز زميله الذي يشاركه الرحلة الخشبية وهمس.- هناك شيء غريب.سأله زميله نصف النائم.- ما هو؟- لا أعرف، ولكن ثمة شيء ما.وقبل أن يسمع صوت زميله اقتحم فضاء الصف صوت هتاف مراقب الصف.- قيام.نهضوا جميعاً توقيراً للمعلم الذي دخل ببدلته الجديدة ووجهه الثلاثيني الحليق وابتسامته المعهودة وهمس.- جلوس.وحالما جلسوا نبر لزميلة.- انه ليس درس الفنية.أجابه الآخر والنوم لما يزل سلطاناً مهيمناً على حواسه.- أجل.أكد بنبرة واثقة.- بل الرياضياتوقطع عليهما الهمس صوت المعلم وهو يقول.- ستذهبون إلى بيوتكم وتأتون بعد ساعة وأنتم ترتدون “التراكسوتات” والأحذية الرياضية.ثم أمرهم.- ستخرجون من المدرسة بنظام كل اثنين في نسق واحد وكما تفعلون في درس الرياضة.ثم قال للمراقب.- هيا نظمهم واخرجوا بهدوء.ولأن بيت الفتي يقابل كنيسة مار يوحنا التي خصص الجناح الشرقي منها كمدرسة ابتدائية بغرفها العتيقة وقبابها المتناسقة والتي تطل على فناء واسع منخفض عن هيكل الكنيسة تكلل وسطه ساحة فسيحة خصص أكثر من نصفها ساحة لكرة السلة والطائرة وحيث يجتمع في جنباتها التلاميذ في الفرص أو في الصباح الباكر قبل موعد الدوام للعب بأقلام الرصاص الصغيرة بلعبة تشبه لعبة “الدعابل” وكل قلم تلميذ مركون بالعرض كعلامة يكون صيداً لإصبع تلميذ آخر على بعد متر أو مترين حسب الاتفاق وهو يطلق قلمه اتجاه قلم زميله، تتحول ملكية القلم المصاد إلى تلميذ القلم الصائد، فضلاً عن ألعاب “الدابور” و”الرفس” وغيرها، ومختصر الأمر الألعاب التي كان يمارسها الكبار في البيادر الواسعة في العصاري تتحول مصغرة في باحات المدارس الابتدائية الثلاث في “بغديدا”. وحين وصل الفتى إلى الصف بتراكسوته الأصفر النظيف و”الكالة” البيضاء وجد المعلم في الصف ينتظر فطرق الباب فهش المعلم بوجهه ثم أشار له بالدخول، وحين اكتمل التلاميذ قبل أن يكتمل الوقت المخصص لهذا الأمر هتف المعلم بمراقب الصف.- هل ثمة غياب؟اشرأب المراقب بعنقه يتأمل الرحلات والتلاميذ ثم أجاب باحترام جم.- لا أستاذ.فواجههم المعلم وقال بنبرة خطابية مهيبة.- ستقلكم بعد قليل سيارات لاستقبال شخصية مهمة في المفرق بين الموصل وأربيل… أدعوكم أن تكونوا وجهاً مشرقاً ومشرّفاً لمدرستنا ولمدينتنا.ثم أنشأ يستطرد.- ستصطفون على جانبي الطريق وحين يأتي الموكب ويصل إليكم ما عليكم سوى التصفيق المتواصل حتى تجتازكم آخر سيارة من الموكب.وبعد وقفة قصيرة تملى التلاميذ وهتف بصوت خطابي رصين.- مفهوم؟صاح الجميع بصوت واحد.- نعم أستاذ.وعندما حاذوا البوابة الرئيسية للمدرسة وجدوا زملائهم في الشُعب ألأخرى قد سبقوهم في استقلال الأجواف الخلفية للسيارات الكبيرة الثلاث التي تستعمل عادة لنقل البضائع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة التي يكترونها أصحاب المطاحن والمحلات والبقاليات لاستقدام البضائع من اللواء، فانحشروا في جوف السيارة المخصصة لهم وفي صدر كل سيارة استقل معلمان بينما استقل المدير والمعاون ومعلمان آخران السيارة الخاصة لمعلم الفنية التي يأتي بها كل صباح من الموصل، وكانت رحلة أمدها ثلث ساعة، والسيارات تجتاز بتمهل الأراضي الزراعية التي تنتظر سواعد الفلاحين وثيرانهم والأنيار المعلقة في رقابهم، وثمة أسراب من الزيغان (مفردها زاغ: نوع أسود من الغربان يقال له: الغراب الزَّرعيّ، وغراب الزَّرع “المعجم”) تنتشر في الفضاء الرائق لتحط على إحدى الأراضي المبذورة كي تتحصل على الكلأ، والتي توسم “بغديدا” بتواجدها خلال الخريف والشتاء والتي أُطلق اسم المدينة الرسمي في سجلات الدولة منذ العهد العثماني تواصلاً الى الحاضر الراهن باسمها المتداول المعروف (قره قوش: الطير الأسود)، وحين وصلت السيارات إلى محاذاة تل القديسة بربارة وجدوا سيارة أخرى من ضيعة “كرملش” في انتظارهم فتوقلت القافلة طريق المفرق وحين وصلوا وجدوا الآلاف من تلاميذ مدارس قرى القضاء في الانتظار فكان منظراً خلاباً توّجَه النظام الرائع لترتيب المدارس بملابسهم الرياضية المتنوعة الألوان وقد تقاطرت من أقصى حد قابل للرؤية والمبتدئة من قصبة برطلة وتنتهي بأقصى حد قابل للرؤية والمنتهية بالطريق المنحدر نحو نهير الزاب، كان العسكر منتشراً على حدي الشارع وعلى طول الطريق يحددون المسار الذي لا يمكن تجاوزه من قبل التلاميذ ومعلميهم أو أي شخص غير مخول، ثم….. شق عنان السماء الصاحية صوت التصفيق المصحوب بالزغاريد المتواصلة فاشرأبت الأعناق صوب برطلة فكانت الأذان تسمع الهتافات وهي تشق عباب السماء والعسكر في حيص بيص وهم يهرولون باتجاهات شتى والهدف هو ضبط الأمن، وُسمع صوت المعلم وهو يقول بصوت جهير.- اهتفوا مثل ما تسمعون.ثم قال بصوت صادح.- عاش الرئيس عبدالرحمن عارف.و… انبثقت السيارات المتراتبة، فجاءت الأولى واجتازت وكانت مكتظة بالعسكر، ثم الأخرى وكانت بيك آب وعليها يجلس جندي بملامح صارمة وكأنه تمثال ويده على زناد مدفع فوهته تعانق الفضاء، ثم…. كانت السيارة الأنيقة المكشوفة وعلى مقعدها الخلفي يقف الرئيس ببزته العسكرية وبدنه الضامر وهو يرفع كفاً ناعمة ويلوح بها لجانبي الشارع والفضاء يصدح بهتاف متواصل: (عاش الرئيس عبدالرحمن عارف.)مكررة عشرات المرات وبتمازج غير نظيم، ألجمه الموقف ويداه تصفقان برتابة نظيمة حين التقت عينا الرئيس بعينيه والكف تلوح في الفضاء الرائق شعر بأن الابتسامة التي تنفرش على شفتي الرئيس انسلت في الفضاء واستقرت في وجدانه ووجدان زملائه المتراصين على يمينه وشماله.
***”*” معجم المعاني:- انثالت عليه الأفكار: تتابعت فلم يدر بأيها يبدأ.- وانثالت عليه العبارات: تتابعت وكثُرت فلم يدر بأيها ينطق.
15152 CommentsLikeCommentShare