العراق المدني والتشييع السياسي – ج1 – ماهر سلطان
الجزء الأول
توطئة
قبل البدء أود التنويه إلى أن هذا البحث لا علاقة له بالدين الإسلامي ولا بالمذهب الشيعي، ولا بالمسلمين، ولا بالمكوّن الشيعي في العراق وإيران مطلقاً، وإنما هو محاولة متواضعة لفهم حقيقة الصراع بين الفكر الديني السياسي الإسلامي والفكر المدني، مع بالغ الاحترام والمحبة والتقدير لكل الشعوب العربية والشعب الإيراني ولكل الاديان والمذاهب.
إن الصراع المحتدم بين قوى (التشيع السياسي) وبين (العراق المدني )، الذي شهده العراق منذ سنوات ما بعد الإحتلال الأمريكي الذي وقع عقب تلاشي واندثار النظام البعثي السابق، لا يمكن بحال من الأحوال التغاضي عنه، كما لا يصح ترك التوصيف لقوى التشيع السياسي بشكل تنميطي وكأنه وحدة واحدة متجانسة متفقة في المواقف والأهداف والتوجهات والآليات والانتماءآت كما هو حاصل في الطرف الآخر ونقصد به العراق المدني. وعلى طريقة المتابع الحذر ينبغي أن نرصد ما لهذين الطرفين من ركائز وأدوات وتوجهات وقواعد شعبية وانتماءات آيديولوجية .
العراق المدني
مصطلح مختَلف عليه كثيرا، حاولنا أن نرصد من خلاله كل من لا ينتمي آيديولوجيا إلى تيار التشيع السياسي، وهم الأحزاب والكتل التي لا تحمل ذلك التصور عن وجوب (الحكم الشيعي المظلوم تاريخيا) التي تسعى إلى استعادة العراق لوضعه الأصيل في دول العالم والمنطقة وإلى مدنيته وعَلمانيته مع احترام كافة الأديان والطوائف والألوان المجتمعية التي كانت ومازالت تعيش على أرضه الرحبة المتسامحة، التي تستوعب التعددية، هذا البلد الذي صدّر للعالم قبل آلاف السنين اُولى أنفاس العلم والمعرفة عن طريق (الكتابة) وأهم ركائز الحركة والتقدم في اختراع (العجلة) التي ظهرت في العهد السومري تحديدا، وكذلك التداول (بالعملة) بدلا من نظام المقايضة الذي كان يشيع في تلك الأزمان السحيقة، ناهيك عن أنواع الفنون والعمارة والتنظيمات المجتمعية التي كانت بعيدة كل البعد عن تصورات الإنسان في تلك الأزمنة والبقاع.
لا ندعي أن كل القوى والأفراد من القواعد الشعبية المنتمية للعراق المدني أو المدعية الإنتماء إليه لديها هذا التصور والطموح في استعادة العراق ونهوضه بالشكل الحضاري، ولا نريد أن نتبجّح بفكرة مثالية طوباوية بعيدة عن الواقع والموضوعية، بل نحن نجزم بوجود توجهات مصلحية نفعية لا تمت للوطنية الخالصة والوعي الديمقراطي بصلة. فنحن لا نتكلم عن حزب أو تيار واحد وطني ملائكي إن صح التعبير وإنما عن مجموع قوى وتوجهات وآديولوجيات وأفكار وملامح وقواعد مختلفة حاولنا تجميعها تحت هذا العنوان لنقابلها بتيار (التشيع السياسي) فقط.
نخلص إلى نتيجة هي أن عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي وأفول النظام البعثي يتجاذبه مصطلحان أو طرفان سياسيان هما العراق المدني، والتشيع السياسي، أما الأول فهو عنوان فضفاض يضمُّ في سرادقه المسيحي والشيعي والسني باختلاف مذاهبهم، والكردي والتركماني والايزدي والصابئي والمتشدد والعلماني المنفتح والمتعصب والعشائري المتعصب والمنفتح كذلك، والناشط السياسي والناشط الديني والناشط المدني وغيرهم من مكونات هذا الشعب الكريم. أما المصطلح الآخر فهو كذلك اختُلِفَ في نشأته وما آل إليه كما اختُلف في تبعيته وأهدافه ومواقفه وتصوراته. وسيتم التطرق لكليهما.
التشيع السياسي
بعد أن كان هذا التيار تيارا سياسيا وعسكريا معارضا انتقل من طور المعارضة للنظام السابق إلى المشاركة في العملية السياسية واعتلى سدة الحكم في العراق، وأظهر أذرعه المسلحة بشكل يختلف شدة وضعفا بين هذا الحزب والتيار وذاك، وكلها كانت مدعومة من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران التي تبنت هذه الأحزاب والتيارات المسلحة وغير المسلحة بعد أن كانت هذه الأحزاب قد قضت طوراً كبيراً من حياة معارضتها للنظام السابق في أحضان الدولة الإيرانية التي تحمل الهمّ الآيديولوجي نفسَه من التشيع السياسي، التي تؤمن بضرورة قيام دولة شيعية عابرة للقومية والوطنية والعرقية .
وبذلك اتفقت إلى حد بعيد مع تنظيم الإخوان المسلمين (المصري) في تلك الضرورة والتوجه والنزعة إلى دخول المعتركات السياسية والعسكرية للوصول إلى سدة الحكم وإن اختلف معها في أمور مذهبية على صعيد المتبنيات الفقهية والعقدية، لكن لم يكن ذلك مهماً بعد التوافق على أصل المشروع في وجوب الحكم الإسلامي الديني ومحاربة العلمانية والمدنية الحرة التي تقضي بفصل الدين عن السياسة وترشيد المجتمع المدني والحرية والحداثة (الحداثة كفكرٍ لا كمُنتج)([1]). فقضايا الحداثة لا يمكن للإسلام السياسي الديني تبنيها والتوافق معها وإن ادّعتها وتفوهت بها؛ لأنها تصطدم في جذورها مع الفكر الديني المأخوذ من المنقول المقدس (الأولي أو الثانوي) أو عموم الأدبيات الدينية التي تجعل من الإله والشريعة والحياة الأخروية هي المحور دون الإنسان والعقل والحرية والعلم والبحث العلمي الحر والعلم التجريبي، أما منتج الحداثة فهو ما تنتفع به المجتمعات والأفراد بشكل عام على مختلف توجهاتها ونزعاتها الفكرية والآيديولوجية مثل الانترنت والهاتف النقال والتلفاز والماكنة الحديثة والطائرة وكل منتجات الحداثة والعالم الحديث الذي ولد قبل ٢٥٠ سنة تقريبا.
اعتمدت هذه الأحزاب الشيعية والفصائل المسلحة وسائل عدة وانتهجت مناهج مختلفة في سبيل تكوين تصورات لدى المجتمع الشيعي تحديدا؛ ليقف إلى جانبها وهي تخوض المعارك والصراعات مع كل من اعتبرتهم أعداء (التشيع السياسي)، وكانت موفقة بشكل كبير جدا لاسيما أن الذي كان ينظر إلى ذلك كله هي عقول إيرانية، ذات تجربة سياسية عميقة امتدت لزمن طويل منذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩م، فنحن نتكلم عن أربع وعشرين سنة سياسية وعسكرية عسيرة قد أنضجت العقل الإيراني في معرفة سبل الدفاع عن آيديولوجيتها ومصالحها واحتواء أزماتها وتجنيد الشعوب والحركات والأفراد في معسكر الثورة الايرانية .
نحن ندرك تماما أن المكون الشيعي لا سيما الجيل السابق منه (١٩٦٠-١٩٩٠م تقريباً) كان واقعاً تحت تأثير الحس الإسلامي ثم المذهبي؛ لترويج الفاعل الإسلامي([2]) لعدوانية الفكر العلماني واتصاله بالغرب المستعمر الذي احتل الدول العربية الإسلامية، وترويج فكرة (المذهب والمكوّن المظلوم) الذي يجب أن ينتقم من ظالميه وهم (العرب غير الشيعة والغرب المستعمر).
هكذا استطاعت إيران تغذية الفكر الشيعي العراقي بالدرجة الأساس، والفكر الشيعي في المنطقة بشكل عام كما فعلت في القطيف والإحساء والبحرين وغيرها من الشيعة في المنطقة، لكن أخطر ما تم استحداثه في العراق على يد إيران والإسلام الشيعي هو شرعية السلاح وتمجيده والهتاف له عن طريق تأسيس الحشد الشعبي وفصائل المقاومة الذي هو نسخة طبق الأصل من تجربة الحرس الثوري الإيراني الذي اختطف السلطة في إيران من يد العقلاء والخط المعتدل ومن إيران المدنية والدولة والثقافة والفنون والحضارة.
لو عدنا الى عراق ما بعد الإحتلال وتفحصنا حركة التيارات والأحزاب الشيعية التي كانت لها أجنحة مسلحة ومنظّمة، فهي لا تعدو:
- (منظّمة أو فيلق بدر) الذي تأسس في إيران وانتقل إلى العراق مع الأحزاب العراقية المعارضة للنظام السابق.
- (التيار الصدري) الذي كوّن (جيش المهدي) حيث انطلق كجيش لمقاومة الإحتلال الأمريكي الذي وقع على العراق في عام ٢٠٠٣م .
لا أظن أن عراقياً عاصر تلك الأيام والأحداث يمكن أن تغيب عنه هذه المعلومات، والأحداث التي استدعت انشطار التيار الصدري وتشظيه إلى وحدات مسلحة، حملت فكر مقاومة المحتل الأمريكي كفكرة أساسية، تعطيها المشروعية في حمل السلاح والدفاع، وتستأثر بذلك الأتباع الذين يحملون هذا الهمَّ الذي أظْهَرَ زعيمهم الروحي وأصبح من خلال تلك المقاومة يشار له بالبنان بعد أن تخلت كل الأحزاب الشيعية والكردية عن تلك المقاومة للمحتل المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، التي قضت بدورها على الطاغية المستبد وجاءت في الوقت عينه بمعارضيه بمختلف مشاربهم السياسية، كان من أبرزهم الأحزاب والتيارات الإسلامية الشيعية التي كانت في المهجر إذ كانت أغلبها تدين بالولاء للجمهورية الإسلامية الإيرانية إذ احتضنتها ودعمتها لاسيما إبّان حربها مع العراق. كما لا يفوتني أن اذكّر بالإنشطار الذي حصل في الساحة البدريّة والبدريين كذلك لأسباب لا طائل من ذكرها هنا.
علينا ألا نتشعب كثيرا؛ ليتم التركيز على هذه التيارات والفصائل المسلحة التي استقرت في العراق مع تشكيلاتها المسلحة التي كانت فاعلة بشكل كبير في إحداث النزاعات الطائفية التي عمّت العراق كأسوأ فترة وحقبة مرت على هذا الشعب المظلوم الذي تخضب بدماء أبنائه من الأبرياء لبضع سنوات سوداء مريرة .
نعود إلى المشهد العراقي الأهم الذي نحاول فيه رصد تلك التيارات والفصائل المسلحة وحركتها في العراق، وهو مشهد الحرب المقدسة على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المسمى بـ ( داعش)، هذا المشهد وهذه الحرب التي نَفَر لها أبناء العراق الغيارى بعد أن استفزت أهلها تلك العصابات والشراذم القذرة المجرمة في مناطقنا الغربية والموصل وديالى، حيث كان خطر داعش يحاذي أطراف العاصمة بغداد ويبث الرعب في أوساط الشعب العراقي، حتى بلغ الأمر مبلغه من الجديّة والخطر مما حدا بالمؤسسة الدينية الشيعية الممثلة بالسيد علي السيستاني([3]) أن تعلن عن فتواها في وجوب مجاهدة هذه العصابات على نحو الكفاية، فهب لتلك الفتوى آلاف الشباب والكهول والشَّيَبَة للدفاع عن حريم مدننا المحتلة وتحرير أهلها من نير هذا العدو الجاهل المجرم.
إن تلك الأعداد والتشكيلات الأولى التي أعقبت الفتوى الجهادية، هي التي مثلت الحشود الشعبية الأولى التي وقف لها ولتضحياتها العالم أجمع إجلالاً وإكباراً لدورها في الدفاع عن العراق، وعن المنطقة كلها، وهي عراقية الإنتماء والنشأة والمنتهى حيث خرجت في أغلبيتها الساحقة من (وسط وجنوب العراق)، وهي نفس ما تصرُّ المؤسسة الدينية في العراق حتى هذه اللحظة على وصفها بمن لبى نداء المرجعية دون التّسمية!.
موقف المرجعيات الدينية
يبدو أنّ الأمر كان واضحاً لدى المرجعية حين شهدت تلك التحركات السياسية وهي تحوم حول هذه الأعداد البشرية الشجاعة والمخلصة والمؤمنة المفتقرة إلى السلاح والتنظيم والعسكرة والتدريب في الوقت عينه لأجل ضمها لتلك الأجنحة والفصائل المسلحة التي انتهزت الفرصة في تحقيق أجندتها ووجودها بهذه الأفراد والرجال في ساعة العسرة والخطر المحدق بالوطن. وقد لعبت ماكنة الإعلام دورا كبيرا في تصوير قادة الفصائل المسلحة على أنهم قادة النصر العظماء وأن هذا الحشد حشدا عقديا مقدسا يحمل العقيدة الشيعية الحقة.
أحاول هنا أن أبين فرقا جوهريا ومُهما بين ما ظهر للعيان من فكر مرجعية السيد السيستاني وبين مرجعية إيران ومؤسسة الأزهر وشيوخها، ألا وهي إيمان السيد السيستاني بمدنية الدولة العراقية وبالدولة المدنية دون الدينية، ولعل ذلك من الأمور الواضحة التي تخفى على كثير من الناس في الوقت نفسه.
ليكن معلوما عند القارئ المحترم أن أغلب من تصدى للمرجعية في المذهب الإمامي، كان يحرّم قيام دولة دينية يتزعمها الفقهاء والمراجع، وأن الفقيه والمرجع الديني لا ولاية له على الأمة، وأن الدولة يجب أن تدار من الساسة والمختصين في الحكم([4])، وهذا هو الفارق الذي لم تستسغه كل الجماعات التي تؤمن بالإسلام السياسي وولاية الفقيه، ولم تستسغه الجمهورية الإسلامية والخطاب المتشدد فيها المتمثل بالحرس الثوري وأتباعه من قيادات مؤسسة الحشد، لكن ذلك كله كان نارا تحت رماد، حيث أن السكوت عنه على مضض من إيران ومن قيادات الفصائل والحشد؛ لذلك كان السيد السيستاني يصر على الإنتخابات وعدم تدخل المؤسسة الدينية بشكل مباشر في الدولة إلا من باب الإرشاد والنصح، وكان يرفض بشكل قاطع تسييس الحشد الشعبي وتعريضه للمزايدات السياسية واستخدامه واستخدام رجاله لمخططات سياسية خارجية وإقليمية ومنافع حزبية وشخصية وقد أكد على ذلك، وهو يعلم أن الأحزاب الإسلامية وفصائلها المسلحة قد انتهجت هذا النهج مع هذه الجموع والحشود من الملبّين لفتوى الجهاد الكفائي .
لقد تمَّ خلط الأوراق على أبناء العراق بشتى أنواع الدعاية والشعارات العاطفية والطائفية ليكون الحشد الشعبي في نهاية المطاف مؤسسة لها طابع ديني سياسي عسكري له انتماء إلى العراق باعتبار أفراده، وانتماء إلى فتوى المرجعية باعتبار نشأته الأولى، وانتماء إلى إيران باعتبارين؛ الأول قياداته التي تربت وتدربت هناك، والاعتبار الثاني هو الدعم الإيراني لهذه المؤسسة في حرب العراق ضد داعش الإرهابية وذلك عن طريق تقديم السلاح والخبرات العسكرية وشتى أنواع الدعم في الوقت العصيب، بعد أن تخلت عنه دول المنطقة العربية والإسلامية كلها وكذلك الغربية، والحقيقة أن ذلك قد حصل بالفعل ولا يمكن نكرانه.
والسؤال الذي يتوجب طرحه: ما الثمن لذلك كله؟.
يتبع…
ماهر سلطان
2021
[1] ) فكر الحداثة يعتمد على الحرية والفردية وتبني الإنسان والعقل كأفضل منظّر ومشرّع للقوانين وتبني العلم الحديث والبحث العلمي الحر بعيدا عن التوجهات والآيديولوجيات الدينية والكتب المقدسة المختلفة.
[2] ) يُقصد به: (تنظيم الإخوان وما تفرع منه ومن استقى من أفكاره)
[3]) المرجع الشيعي الأعلى في النجف الذي يقع وسط العراق.
[4] ) ينظر كتاب: من أعلام الفكر والقيادة المرجعية، عبد الكريم آل نجف، دار المحجة البيضاء، ط1، 1998.