النزاعات النفسية الرئيسية وتاثيرها على القرارات الشخصية – ج1 – يوحنا بيداويد
بقلم يوحنا بيداويد
ملبورن 4 ايلول 2021
من منظور علم الاجتماع هناك حقيقة اساسية تقول:” ان الانسان ابن بيئته”. وقد اكد ذلك الفيلسوف الانكليزي جون لوك قبل ثلاثة قرون حينما قال :” إن الإنسان يولد وعقله صفحة بيضاء، وكل ما يقوم به الإنسان من سلوك هو عبارة عن شيء مكتسب من البيئة المحيطة([1]). في هذا المقال سنحاول شرح العوامل او العناصر التي تربط بين شخصية الفرد وقراراته تبعا للنزعات الرئيسية، لنماذج الخيارات المتوفرة التي تتبعها البشرية على مر التاريخ، ومن كيفية تاثر قراراته بالصراع بين عناصر تلك النزعات.
حسب العالم الاجتماعي والنفساني غوستاف لوبون([2])، حينما يولد الانسان في اي بقعة من العالم ويصل الى مرحلة الوعي سيجد نفسه امام خمس خيارات، خمس نزعات رئيسية او (منطق التفكير)، يجب يتبع احداها (او اكثر في نفس الوقت ) في كل قرار يتخذه، بكلمة اخرى كل الناس تتاثر او تخضع كل افعالها او نشاطاتها (قراراتها) لاحدى الطرق النزاعات الخمسة من منطق التفكير الشائعة بين التجمعات او الكروبات البشرية وهي كما يلي:
اولا- منطق الحياة
حسب العالم غوستاف لوبون([3]) هذا المنطق من التفكير هو غير خاضع للوعي او ارادتنا، هو فطري ويشبه ما اصطلح عليه مواطنه العالم والفيلسوف الفرنسي هنري برغسون من اجل بقائه ” نظرية الدفع الحيوي”([4]). حسب هذا المنطق ان الانسان يتصرف بحسب هذه النزعة الفطرية ليحافظ على حياته من مخاطر البيئة ويكافح من اجل توفير الحاجيات الضرورية الاساسية (الغرائز) مثل الاكل والماء والامن والتكاثر وغيرها.ثانيا- المنطق العاطفي.
ثانيا- المنطق العاطفي
تاريخيا كان علماء النفس يتحثون عنها ويفسرون عملها ونشاطها كجزء من المنطق العقلي(النزعة العقلانية). لها تاثير كبير الافراد بصورة فردية وجماعية، يمكن تتطور كغيرها من النزعات الرئيسة لتصبح صفة اجتماعية لمجموعة بشرية او قوم حسب المباديء والعلاقات الاجتماعية مثل القيم والعادات وتاثير الدين في تسخينها في وجدان الشخص. عموما الشرقيون معروفون انهم عاطفيون، اي يتاثرون بهذه الصفة( القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة) بالاضافة الى دور التعاليم الدينية المبنية على الغيبة وحب الفقر او قبوله او الزهد او تاذية الذات( جلد الذات)، بينما الغربيون بصورة عامة يتم وصفهم بالعقلانية والمادية البعيدة من الوجدان والمشاعر العاطفة التي تطورت تحتا تاثير الفلسفات والانظمة المدنية.
ثالثا- المنطق الديني
النزعة الدينية نزعة قديمة، ظهرت عند الانسان منذ فجر التاريخي، وما حفر القبور وتقديس اجساد الاموات الا طقوس عائدة لها، بمرور الزمن ظهرت الاجتهادات (الاساطير) حول سبب وجود الحياة، الهدف منها، القوة التي اوجدتها، النقطة الاهم كان التركيز هل توجد حياة اخرى بعد موت الانسان في هذا العالم. طبعا كان ولا زال الخوف من المجهول (تاثيرالصدمة) موجودة لدى اغلب الناس حتى في عصر الحديث، لهذا نرى بعض الفلسفات الحديثة(الوجودية) ظهرت بسبب هذه النزعة او الشعور بالخوف من المجهول. شكلت الاديان احدى اهم تكتلات بشرية(كروبات) وبنوا مؤسسات وشرعوا القوانيين باسم الالهة كما جاءت في الاساطير البابلية الكلدانية ثم تطورت الديانات السماوية. هذا التيار لا زال اقوى من اي كروب اخر بسبب الجهل والخوف واحيانا كثيرة المنفعة الذاتية!
رابعا- منطق الجموع
منطق الجموع الحشد، هو تعبير اخر للعرق (مفهوم القومية او شعب) الذي له مقومات ومشتركات خاصة به لا يشترك بها مع غيره. هذه المقومات لها فائدة اجتماعية واقتصادية لاي فرد من افرادها. تاثرت الشعوب والاقوام بهذه النزعة في القرنين الاخيرين وكانت السبب الرئيس للحروب التي حصلت في القرن التاسع العشر والقرن العشرين بالاخص الحربين العالميتين الاولى والثانية التي راح ضحيتها قرابة 75 مليون ضحية. منطق الجموع يعمل بقوة عند الناس البسطاء والفقراء بقوة حينما تتوفر قيادة تعرف كيف تشعل المشاعر القومية فيهم ذات الصبغة الشمولية يشعر الفرد انها لمصلحته. الشعور القومي يفعل عند الشعوب اكثر من اي نزعة اخر بل تحول الانسان العادي الى المتعصب وثوري ومستعد للكفاح وحتى الموت من اجل حماية عرقه كما حصل في الحرب العالمية الاولى حينما استسلمت اليابان في الحرب العالمية الثانية بعد ضربتها الولايات المتحدة بالقنابل الذرية قام العديد من الضباط بعملية الانتحار بسبب خيبتهم واستسلام الملك.
خامسا- منطق العقل
هذا المنطق او النزعة هي اضعف من اي مجموعة اخرى بل لا تتعدى 5 % من النسبة الكلية، هذه النزعة تبعد عن نفسها تاثير كل نزعة اخرى من التي ذكرناها، تعتمد على التحليل العقلاني لاي قضية، وتدرس الوقائع الارضية والعوامل المؤثرة عليها من الماضي والحاضر والمستقبل، وكذلك تقيم مدى نجاحها والفائدة المرجوة منها. المنتمين او الذين الخاضعين
لهذه المجموعة بالفعل هم نخبة من المفكرين والسياسين والباحثيين والمسؤولين الكبار في الدولة الديمقراطية او المؤسسات او الشركات الكبيرة التي هي غير خاضعة للدين.
تاثير الافكار المتعارضة بين النزعات الرئيسية للبشرية
يقارن العالم غوستاف بين علم الهندسة الميكانيكة وعلم النفس، ويعترف لو وصل تطورعلم النفس الى مستوى علم الهندسة سيكون بمقدور علماء النفس تغير خضوع اي انسان لاي من النزعات الرئيسة الانفة الذكر، فكما يمكن التنبؤ بخسوف القمر كذلك تصبح روح الانسان الة بيد العلماؤ مط على الى الطابعة، فكتابة اي حرف لا تحتاج الا الضغط على زر معين([5]).
لكن مع هذا علم النفس من خلال مراقبة تصرفات الناس ورد افعاله للمثرات الخارجية توصل الى التمييز بين الانسان المتزن والغير متزن، فالانسان غير المتزن تظهر المطبات في تصرفاته بتاثير العوامل الخارجية، وبمعرفة هذه العوامل يمكن تشخيص امراض والصعوبات التي يمتلكها هذا المريض( يعني الهيجان او الغضب او التعصب وعلو الصوت والتجاوز على الاخرين بعباران نابيه…الخ) حينما يكون وعيه يفكر في هذه المواضيع او القضايا. اما الانسان المتزن يكون محني رده فعله مقابل تصرفاته( الاستنفار النفسي) ثابت بل معدم.
لكن السؤال المطروح كيف تنتقل العدوى لهذه النزعات او (المنطق التفكير) كي تصبح كبيرة.
حسب غوستاف لوبورن ان البيئة و العرق والعدوى هي كافية لانشاء النزعات العظيمة، وان المنفعة الشخصية و والانفعال(الهيجان) هي كافية لتكوين او تحدد التصرفات اليومية لكل الانسان([6]). سنشرح اكبر في الجزء القادم عن تاثير المفاهيم المشتركة بين كروبات البشرية مثل الاخلاق، والمثل الاعلى، والحاجة، المنفعة، الحرص على هذه الكروبات او الاقوام او التجمعات البشرية.
[1] – وليم مكلي رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد احمد، تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح امام، دار التنوير للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، القاهرة-مصر، 2016، ص157 .
[2]– غوستاف لوبون، الاراء والمعتقدات، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، مصر، ص-62-64
[3] – غوستاف اوبون (1841- 1831) طبيب وعالم نفساني فرنسي صاحب نظرية العقل الجمعي التي طرحها في كتابه “الجماهير: دراسة في العقل الجمعي” و كتاب الاخر “سيكولوجية الجماهير” وكتاب “تطور المواد” الذي تناول فيه العلاقة بين المادة والطاقة، وكتاب “اراء ومعتقدات” وكتب اخرى مهمة في دراسات المجتمعات الشرقية.
[4] – نظرية تعود للفيلسوف والعالم الفرنسي هنري برغسون (1859-1941). يوحنا بيداويد، مقال نشر في موقع الحوار المتمدن العدد3480، بتاريخ 8/9/2011
[5] – غوستاف لوبون، الاراء والمعتقدات، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، مصر، ص.103 .
[6] – نفس المصدر، ص 104.