الإسلام السياسي – ج2 – ماهر سلطان
الجزء الثاني
تمهيد
كي ننتقل إلى ميدان التعرف على الإسلام السياسي الحديث لابد من مقدمة تتضمن التعريف بسياسة الدولة العثمانية، ولا مفر من الإطالة قليلا لكشف اللثام عن مرجعية هذا التنظيم المؤثر في مجتمعنا أيّما تأثير؛ حيث تباكى الإسلام السياسي على انهيار الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية بشكل يضطرنا إلى إلقاء الضوء على حقيقةِ وماهيةِ تلك الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وسياسة وممارسات سلاطينها وجنودها مع المسلمين، عند احتلالهم الدول الإسلامية، أما جرائمُهم مع البلدان الأوربية وغير الإسلامية فنتركها اعتمادا على ما كتب عنها وأرّخَ لها المؤرخون في الغرب والشرق، حتى كانت من أواخر جرائمهم ما اقترفوه من مجازر وإبادات جماعية في حق المسيحيين الأرمن، وهم قرابة المليون إلى مليون ونصف نسمة، وفي مذابح سيفو التي راح ضحيتها ما بين (٢٥٠ – ٥٠٠) ألف نسمة من السريان والآشوريين والكلدانيين بتوثيقات أممية على يد تركيا الفتاة التي تعد امتدادا لسياسة الدولة العثمانية.
سياسة الدولة العثمانية
سنحاول في هذا الجزء تناول سياسة الدولة العثمانية، والممارسات الهمجية لهذه الدولة بالاعتماد على مؤرخَين مرموقَين، وشهود عيان على سياسة العثمانيين عند دخول بلاديهما هما: محمد بن أحمد بن إياس (1448-1524م)، حيث أرّخ لاحتلال العثمانيين لمصر سنة 1517م، في كتابه القيّم (بدائع الزهور في وقائع الدهور)، والثاني هو مؤرخ دمشق الأول بلا منازع شمس الدين بن طولون الصالحي في كتابه الماتع (مفاكهة الخلان في حوادث الزمان).
يصف ابنُ إياس الجيش العثماني التابع للقائد والسلطان سليم الأول بقوله: “فأما عساكره فكانوا جعانين العين، نفسهم قذرة وعندهم عفاشة في أنفسهم زائدة، وقلة دين، يتجاهرون بشرب الخمر في الأسواق بين الناس، ولما جاء عليهم شهر رمضان فكان غالبهم لا يصوم ولا يصلي في الجوامع، ولا حتى صلاة الجمعة كانوا يقيمونها، وما كان عندهم أدب ولا حشمة وهم همج كالبهائم”.
ثم ينقل واصفا دخول العثمانيين القاهرة في أحداث تتبعهم للمماليك قائلا: “وصارتِ العثمانية تنهب ما يلوح لهم من القماش وغير ذلك وصاروا يخطفون جماعة من الصبيان المُرد والسود… ثم توجهوا إلى شؤون القمح التي بمصر وبولاق فنهبوا ما فيها من الغلال وهذه الحادثة التي وقعت لم تمر لأحد من الناس على بال وكان ذلك مما سبقت به الأقدار من الأزل… ثم صارت القتلاء (القتلى ) من الأتراك والعثمانية أجسادهم مرمية من بولاق إلى قناطر السباع وإلى الرملة وإلى تحت القلعة وفي الحارات والأزقة من الأتراك (المماليك) والعثمانية وهم أبدان بلا رؤوس”، ثم يُكمل ابن إياس قائلا: “ولمّا هرب “طومان باي” (السلطان المملوكي) وقعت بالقاهرة المصيبة العظمى التي لم يسمع بمثلها فيما تقدم من الزمان، طفشت العثمانية في الصليبية وأحرقوا جامع شيخو، فاحترق سقف الإيوان الكبير والقبة، ثم أن العثمانية طفشت في العوام والغلمان من الزعر (العامة) وغير ذلك ولعبوا فيهم بالسيف وراح الصالح بالطالح وربما عوقب مَن لاجن ( من لم يرتكب جناية ) فصارت جثثهم مرمية على الطرقات من باب زويلة إلى الرملة ومن الرملة إلى الصليبية إلى قناطر السباع إلى الناصرية إلى مصر العتيقة، ثم أن العثمانية صارت تكبس على المماليك الجراكسة في البيوت والحارات فمن وجدوه منهم ضربوا عنقه ثم صارت العثمانية تهجم الجوامع وتأخذ منها المماليك الجراكسة فهجموا على جامع الأزهر وجامع الحكم وجامع ابن طولون وغير ذلك من الجوامع والمدارس والمزارات”.
وأما ما نقله وشاهده المؤرخ الأول لدمشق شمس الدين بن طولون عن العثمانيين في معرض الكلام عنهم وعن سياستهم في الشام فيقول: “أدخل العثمانيون الخوزقة إلى الشام وقاموا بخوزقة شخص؛ لأنه حرامي وقاموا بإرسال خازوق إلى كل حارة”.
وقال في موضع آخر: “دخل السلطان سليم حلب وكان أولُّ عملِهِ نهبَ مال قلعة حلب وأموال السكان حتى صار له مائة وثمانية حملا من الناس، وقد سلّم السكان المدن اتقاء لشر الجنوب إلا أن هذا التسليم لم ينقذهم من النهب، وأحصى الأتراك السكان وفرضوا ضريبة على كل إنسان وكانت أول مرة تفرض هذه الضريبة على المسلمين”.
وقال في مكان آخر: “بعض جماعة السلطان جعل المدرسة العذراوية (للمسيح) صيدَة لغنمه (أي زريبة غنم)”.
مما يذكره أستاذ التاريخ العُماني خميس بن عبيد القطيطي، استكمالا لما يذكره المؤرخون عن تلك الحقبة، أن السلطات العثمانية ارتكبت أبشع المجازر غدرا في (٥) سبتمبر من عام ١٨١٧م، الذي صادف أحد أيام شهر رمضان، فدبر العثمانيون مذبحه بحق قبيلة الجوازي بينما كانوا صائمين على خلفية نزاع بين الوالي يوسف باشا وولده محمد الذي ألتجأ بقبيلة الجوازي وهي أكبر قبائل برقة فتم الاجتماع من قبل الوالي باشا في قلعة بنغازي وأظهر لهم الترحاب ثم دخل الحراس شاهرين سيوفهم لينفذوا أوامر الوالي بذبح جميع مشايخ القبيلة، وأجهزوا على عدد كبير منهم وأخذوا البقية التي حاولت الدفاع إلى غرفة قريبة أعدت خصيصا لإعدامهم، وبعد المجزرة بيوم واحد قتلوا من جاء اليهم متوسطا بالصفح عن بقية أفراد القبيلة وألقيت جثثهم في مياه البحر، وهرب من تبقى منهم على قيد الحياة إلى مصر والتاريخ يؤكد ذلك.
يطلق البرعصي أستاذ التاريخ الليبي، على القرون التي سيطرت فيها الدولة العثمانية على شمال أفريقيا بالعصور السادية إذ يقول: “كان العثمانيون أساتذة في التعذيب، لم يكتفوا بالخوازيق بل ابتدعوا طرقا أخرى مثل قطع الآذان وكانت سياستهم إفقار وإذلال سكان البلدان التي احتلوها، وإشعال الفتن القبلية بينهم لأتفه الأسباب من باب سياسة فرق تسد، وهناك كثير من المشاهد المأساوية في تاريخ الدولة العثمانية، وهذا لا يستطيع أن ينكره أشد المدافعين عن الدولة العثمانية.
يشير أغلب الكتاب والمؤرخين العرب إلى أن تاريخ العثمانيين في المنطقة العربية من أشد عصور الأمة العربية انحطاطا وتخلفا، وغاب فيها النتاج الأدبي والفكري والعلمي للعرب فظلوا قابعين تحت حكم العثمانيين بالحديد والنار، ونفذ العثمانيون عددا من الإعدامات للوطنيين العرب في دمشق وبيروت أواخر عهدهم في الوطن العربي ١٩١٦/١٩١٥م، كذلك حملة التتريك التي قادتها حكومة الاتحاد والترقي والقمع الشديد للسكان العرب، كما منعت جلب أدوات الطباعة إلى الوطن العربي بأوامر من الباب العالي لكي تبقى الأمة العربية في حالة من التخلف تحت رهن الحكم العثماني طيلة أربعة قرون مظلمة، وما يلاحظ أيضا أن المناطق التي دخلها الإسلام في اوروبا خلال الحكم العثماني تخلت عن الاسلام بمجرد انتهاء حكم العثمانيين على عكس الفتوحات الحقيقية التي حدثت في المشرق، وهذا يدلل على أن الحكم العثماني قروسطيا عسكريا لتوسيع الإمبراطورية العثمانية فقط .
وأخيرا ينبغي التأكيد على أن أربعة قرون من الحكم لا يمكن أن تكون كلها سوداء قاتمة فهناك بعض الإضاءآت التي كان من الطبيعي أن تظهر خلال تلك الحقبة، ولكن بروز حالة القمع والتنكيل والقبضة الحديدية للعثمانيين وفرض الضرائب والعزلة على الوطن العربي وغياب مختلف جوانب العلوم والابتكار وحالة الجهل والفقر والعوز كانت هي الظواهر الطاغية التي سادت في الوطن العربي خلال تلك الحقبة، واستمر حال العرب على هذا الوضع المأساوي حتى آخر العهد وسميت الدولة العثمانية بالرجل المريض وتم انتزاع الممتلكات كلها لصالح القوى الاوروبية، وانتهت الدولة العثمانية بإعلان جمهورية تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك في عام ١٩٢٣م، وتم احتلال المشرق العربي عن بكرة أبيه، إذ عانى العرب لاحقا من الاستعمار حتى نالوا التحرر بنضالهم العظيم، وما زالت تأثيرات تلك القرون الأربعة متجلية في المشهد العربي حتى اليوم.
إن ما يطفو على السطح، وما هو واضح لكل من قرأ الشيء اليسير عن جماعة الإخوان المسلمين سيعلم أن هذه الجماعة انبثقت كردةِ فعلٍ إحيائية للهوية الإسلامية، بعد أن تصورت أن أفول الدولة العثمانية كان يعني أفول الإسلام نفسه، وكون المدّ العَلماني قد أسقط الإسلام نفسه وهوية المسلمين في البلاد العربية وغيرها.
بعد إلقاء الضوء بشكل مختصر على مرجعية الإسلام السياسي في الصدر الأول من الإسلام، وعلى آخر دولة أو امبراطورية حكمت باسم الإسلام؛ لبيان الخلل في التصور من كون الدولة النبوية كانت دولة بالمفهوم القديم الذي كان مختلفا حتى عن الدولة الحقيقية العريقة مثل الدولة البيزنطية، والدولة الساسانية المعاصرتيَن له، وإنّ حكم النبي كان من قبيل التنظيم السياسي لجماعات وقبائل بنوع من التشريعات الإلهية وغير الإلهية مع بعض مظاهر التنظيم الذي تمارسه الدولة من القضاء، وبعض الولاة، وبعض المواثيق، وبعض الإجراءات العملية من باب الحسبة والولاية النبوية المباشرة، فقد بينا في هذه الإضاءة الموجزة الفرق والبون الشاسع بين ممارسات الدولة العثمانية وبين المفاهيم التي تبناها الإسلام في نصوصه الأولية، والأساسية، والواضحة من العدل، والرحمة، والوحدة.
سنحاول في الجزء الثالث تسليط الضوء على جماعة (الإخوان المسلمين) التي فقدت المرجعية الحقيقية لنظريتها ومشروعها، وحاولت أن تتباكى على الدولة العثمانية الفاقدة بذاتها للمشروعية أساسا؛ لعدم وجود أمر الهي أو نبوي في قيام دولة دينية، فقد كانوا أبعد ما يكون عن الدين الإسلامي ومفاهيمه كما ذكر الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم آنفا، فأقل وصف يمكن أن توصف به للدولة العثمانية أنها كانت دولة جور لا عدل فيها، واغتصاب وسلطنة لا شرعية إلهية لديها.
يتبع…
ماهر سلطان 2021