قصة البحر – هيثم بُردى
مهداة إلى الفنان أمير أوراها
يدخل البحر مرسم الفنان، ويمسك الفرشاة، يقتنص في رأسه الأشيب المشتعل بالحب والحكمة الأزلية فكرة نيّرة، يمس قماشة اللوحة بفرشاته المضمخة بالشذر والكهرمان والزَبد والأسرار الدفينة، يدخل الفنان مرسمه، يحدق بعينيه المزحومتين بالمغامرة والجنون، تتطامن الموجودات في ذاكرته وتندلق إلى حواسه مفردات دبقة بالحياة: الحصى، الرمل الفائر، حبال شمس الهجير، الزرقة الشفيفة المشوبة بوهم خطوط خرافية.. يعج فضاء المرسم برائحة السمك ومخلوقات اليَّم، يزدحم القلب بفحيح الريح، وغناء الدلافين… ويمتلئ المرسم بالكائنات الخرافية المتوالدة من العصور الحجرية الأولى والوسيطة والحديثة: جماجم لطيور البحر بحجم بيت عصري، ثياب غرقى من عصور النهضة، صواري خضراء اكتسبت لونها الكئيب بزواجها من الأشنات، والأصداف الزاحفة من الأعماق السحيقة للتوالي المجنون لليالي والنهارات، يدخل الفنان تخوم البحر، يمشي فوق الموج، يتقصي الأرجاء باحثاً عن لحظة فريدة ليصلبها فوق قماشة لوحة عتيقة، يأتيه الوشيش، وشيش قريب، ثم يقتعد قمة نافورة تنبثق من فتحة في ثقب غائر تحفّه عينان سوداوان وبدن أزرق هائل، يستحم الفنان برائحة العنبر، ومن ثم يلمح: الشمس، الأنجم، الغيوم الربابية، النوارس، السماء اللازوردية القصية، العقيق المخمر بالزبرجد والزمن التليد، وتخوم تتهاوم آتية عبر حقب نائية، مدن أسطورية بائدة تستيقظ من غفوة سرمدية، وكل شيء ميتافيزيقي يلامس شائبته الصفراء يهتف به كصوت جنية عاشقة: تعال، تعال يا فنان، يا فنان اللون والفرشاة والأقمشة البيضاء.. أهرب من البحر إلى حناياي، البحر عفريت، مومياء، وليل طويل، وحلم لا صحوة ترجى منه، البحر (نرجس) لن يكف عن التحديق في وجهه وعشق ذاته حتى تموت آخر قطرة منه،… يقترب البحر من الفنان، ويقترب الفنان من البحر، ينفتح باب المرسم ويخرجان معاً يداً بيد وكتفاً بكتف، الفنان والبحر، البحر بثياب الفنان والفنان بثياب البحر، ويمشيان نحو الأفق.