أعلن معنا... أعلن معنا...
مقالاتمقالات ودراسات نقدية و بحوث

وعي الشعوب – الجزء الأول – ماهر سلطان

توطئة:

     “وعي الشعوب” ليس عنوانا لموضوع سياسي أو اجتماعي، أو معرفي، أو هو  محاولة تنظير لوعي شعوب العالم، أو تقمص لدور فلاسفة السياسة والاجتماع، وإنما هو محاولةٌ  في التفكير المكتوب؛ لإيجاد نوع من الحلول لمشاكل الجهل، أو عدم إدراك حقيقة الواقع الذي يكتنف الفرد العراقي ويحيط به، وإلى أين تمضي وتسير أموره وقضاياه في ظل الوضع الراهن بهذه المعطيات.

أود أن انوّه إلى أن في بعض محطات هذا البحث سيتم الاستشهاد ببعض المواقف السياسية والاجتماعية المعاصرة كأدلة، أما الهدف من طرح الموضوع – بشكل عام – هو الجانب الفكري لمفهوم الوعي، وصياغته وأفعاله وأثره في الخارج وفي داخل الذات المتصفة به.

معنى الوعي لغة واصطلاحا:

أولا: الوعي في المفهوم اللغوي

وعِيَ يعى، وَعْيًا، فهو واعٍ، وعِي فلانٌ: انتبه من نوْمه أو غفْلتِه.

الوَعْيُ: الحفظ والتقدير، وكذلك: الفهمُ وسلامةُ الإدراك. يقال فقَدَ وَعْيَهُ: أَيْ سَقَطَ فِي غَيْبُوبَةٍ.

في مقابل الوعي نجد مفهوم اللاوعي الذي يعني كل ما يُعبّر به عن مجمل المشاعر والميول والعوامل النَّفسيّة الكامنة في باطن الإنسان التي لا يعيها الإنسان أي لا يدركها الوَعْيُ.

ثانيا: الوعي في المفهوم الإصطلاحي

    ذكر د.شائم الهمزاني، في دراسته (1998)” أن لكلمة الوَعي دلالات ومعانٍ واستخدامات لغوية وشرعية واصطلاحية متعددة؛ إلا أنّها بشكل عام تفيد بأن الوعي في مستواه الفردي إنما يعني: حالة نسبية من الرشد واليقظة الذهنية والكياسة، تجمع بين وظائف كل من العقل والشعور الظاهر والقلب والوجدان والجوارح، في عملية تنظيمية مركبة تقتضي إدراك المعطيات (الرموز) وفهم مدلولاتها ودلالاتها واستيعابها أو استلهامها وتكوين آراء واتجاهات واضحة وثابتة تجاهها واستحضارها والتفاعل معها، في إطار البيئة المادية والاجتماعية المحيطة.

     ويقول الباحث محمد مروان:  يُعدّ الوعي الحالة العقليّة التي يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق الّتي تجري من حولنا، وذلك عن طريق اتّصال الإنسان مع المحيط الّذي يعيش فيه، واحتكاكه به ممّا سيسهم في خلق حالة من الوعي لديه بكلّ الأمور التي تجري وتحدث من حوله، ممّا يجعله أكثر قدرة على إجراء المقاربات والمقارنات من منظوره هو بالتالي سيصبح أكثر قدرةً على اتّخاذ القرارات التي تخص المجالات والقضايا المختلفة التي تطرأ عليه.

     والوعي أيضاً هو المحصول الفكري الذي ينضوي عليه عقل الإنسان، بالإضافة إلى وجهات النظر المختلفة التي يحتوي عليها هذا العقل التي تتعلّق بالمفاهيم المختلفة المتمحورة حول القضايا الحياتيّة والمعيشيّة. نستنتج مما تقدم أن الوعي- من ناحية عامة- معرفة يكتسبها الفرد من مجتمعه، ومن تفاعله معه، ثم هي معرفة قابلة للنمو والتطور.

الوعي في المنظور الفلسفي:

     عدّ الفلاسفة  الوعي بأنه جوهر الإنسان وخاصيتُه التي تميزه عن باقي الكائنات الحيّة الأخرى، حيث أنّ الوعي يصاحب كل أفكار الإنسان وسلوكه، وهو ما يطلق عليه اسم (الوعي التلقائي)، كما أنه مرتبطٌ بمجموعة الأحاسيس والمشاعر التي تكمن في أعماق الذات وهذا ما يطلق عليه بالوعي السيكولوجي، ويظهر هذا الوعي في الحياة العمليّة الذي يتجسد – على سبيل المثال- على شكل وعي سياسي أو أخلاقي.

ولعلنا نخلص إلى تعريف مقارب، فيه نوع من الشمولية لهذه التعريفات وغيرها، فنقول :

     إنّ الوعي هو حالة من الفهم والإدراك التي تنبع من مجموع ما اكتسبه الإنسان من خلال بيئته، ومجموع التلقينات والثقافات التي مرّ عليها عبر فترة معينة من حياته، وهي في تطور وتغير مستمرين، تساعده على خلق تصورات مترابطة عن الواقع الذي يحيط به ويتعامل معه،  فيكون له وعي في مجالات متعددة في السياسة والأخلاق والاجتماع والتاريخ وغيرها من الموضوعات التي يتفاعل معها.

     الوعي في البيئة العراقية:

          إن وعي الإنسان، هو نتاج لمجموعة تراكيب معلوماتية تقوى وتضعف، وتختلف وتتناقض أحيانا، وتنسجم في أحايين أخرى، فهو يتشكل في المجتمع عبر ثقافات وظواهر ومشاهدات، وتلقينات أسرية وبيئية وتعليمية، وقراءآت مختلفة ومعلومات متفاوتة في المصادر وفي قوة تأثيرها في الفرد.

بما أن محور البحث يدور في فلك وعي المجتمع العراقي فلنتناول بعضا من مفردات وعي الأفراد التي بالتالي تشكل وعي المجتمع، – على سبيل المثال لا الحصر-:

 ثقافة الكرم عند الفرد العراقي، التي يمكن رصدها بمختلف سلوكياته، من كرم الأموال والاحتفاء بالضيف وإيواء الغريب، وإجارة المستجير (الدخيل )، وإسقاط الحق للآخر، لعرف عشائري أو لمبدأ أخلاقي أو ديني ، فكل ذلك ينمُّ عن سطوع وتفشّي هذه الثقافة في المجتمع، كما نلاحظ شيوع الثقافة الدينية في الجنوب العراقي دون المناطق الشمالية منه، حيث تغلب على الثانية الثقافة القومية.

     إن الثقافة الدينية التي يصح أن يقال أن جذورها تمتد إلى ماقبل الإسلام بالنسبة للديانات اليهودية والمسيحية والصابئية والايزدية، وإلى القرن الأول الهجري بالنسبة للديانة الإسلامية، وإلى القرن الرابع والخامس الهجريين بالنسبة لتبلور المذهب الإمامي الذي يشكل النسبة الغالبة من سكان العراق.

أما في تاريخ العراق الحديث فنجدها تتمظهر بصورة التركيز على الوعي الديني بحلّته الجديدة الذي أخذ يبزغ ويلمع في بداية سبعينيات القرن العشرين المنصرم مع انتشار أفكار الإخوان المسلمين بشكل لافت للنظر الذي استلهمت منه التيارات الإسلامية في العراق، وانشغلت به القواعد الشعبية بعد ذلك تدريجيا، ومن ثمَّ انفردت الساحة الشيعية تقريبا بالترويج للثقافة الدينية والكفاح في معارضة السلطة  بموروثها الديني وأدبياتها ومنظّريها ومؤسّسيها وقوافل المضحّين على المشانق وفي السجون والمعتقلات، أما في تسعينيات القرن الماضي فقد استفحلت الثقافة الدينية في المجتمع الجنوبي والوسط وبغداد، على يد السيد محمد صادق الصدر بشكل غير مسبوق، ولا يمكن لنا إلا أن نعدها من أهم المفردات المؤثرة بشكل كبير في المجتمع حيث شكّلت الوعي المجتمعي.

     وعلينا ألا نغفل ظواهر ثقافية أخرى  يمكن رصدها في المجتمع  تدخل في تشكيل الوعي المجتمعي، إذ  يمكن الإشارة  إليها على عجالة توخيا للاختصار؛  منها الثقافة الذكورية، والعنف الأسري، والتفاخر، ولعل من أهمها حب الشجاع والبطل والتأثّر به ومحاولة تهويل أفعاله وأقواله ومواقفه وأسطرته وتقليده أن أمكن، وكذلك تقديس الأم دون بقية عنوانات المرأة من زوجة أو أخت أو ابنة، وأيضا ظاهرة تزويج الفتيات الصغيرات التي ظهرت بشكل لافت للنظر في الأعوام الأخيرة،  وغير ذلك كثير مما يمكن أن نعده المادة الحقيقية لوعي الإنسان.

      هنالك مسألة غاية في الأهمية ينبغي الالتفات إليها قبل دخولنا في دهاليز هذا الموضوع، ألا وهي:

       إن الوعي الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو في نهاية المطاف حالة نفسانية  فردية شخصية فلا ينبغي الإصرار على عدّها حالة متطابقة في كل أو أغلب أفراد المجتمع، مع كون الظواهر والثقافات التي ذكرناها هي في معرض المجتمع ومخرجاته، ولكن لا ينبغي التغافل عن كون تلقِّيْنا لهذه الظواهر وتفاعلنا معها وانفعالنا بها يختلف من شخص لآخر بسبب اختلافنا في أنفسنا، فأنا لستُ انت، ولا يمكن أن يكون وعي أحدنا  التفصيلي مطابقا لوعي الآخر تفصيلا وهذا ما يجعلنا نفسر الحدث الواحد الذي نشاهده كلنا في آن واحد بتفسيرات مختلفة، ونأخذ في حياله مواقف متغايرة متعددة، مع ذلك نعبر عنه بالوعي المجتمعي؛ نظراً للمسامحة ولكوننا نقصد إدارك وفهم متقارب حول قضية مجتمعية أو سياسية أو اقتصادية  بشكل عام دون التركيز والدخول في تفاصيل هذا الوعي عند فلان أو فلان أو فلان كلّ على حدة،  من هنا تكمن جدارة وأهميّة التفكيك والدقة في فهم هذا الوعي.

آليات تزييف الوعي المجتمعي:

    ما زلتُ أعتقد أنه من الضروري جداً أن نحومَ حول مفهوم الوعي ونطرح السؤال التالي عن كيفية إمكان خلخلة الوعي وتزييفه وتوجيهه في اتجاه  خاص يريده صاحب ذلك الخطاب الذي يحاول تغيير أو تزييف الوعي المجتمعي عن عمد وتخطيط أحياناً.

     توجد أدوات عدة تستعمل في هذا التوجيه، ولما كان هذا البحث مبتنياً على طريقة النماذج والاستقراءات الناقصة وغير الشاملة، فبوسعنا أن نشير فقط إلى أهم تلك الأدوات بما نراه الأهم منها ولا يعني ذلك عدم وجود غيرها أو انحسارها بما سنذكره، من أبرز هذه الأدوات أو الآليات:

أولا: خلط الأوراق وضبابية المفاهيم المطروحة

   أرى أن من أهم أدوات تزييف الوعي المجتمعي التي يمارسها أصحاب الصوت المسموع  في المجتمعات ، كالسياسي والإعلامي والكاتب وصاحب المنبر الديني أو المنبر الثوري أو العلماني على السواء، هي خلط الأوراق، وعدم وضوح المفاهيم التي يطلقها؛

ليتمكن فيما بعد من التلاعب بها أو تأويلها كيف يشاء، أو إيجاد حالة من التخبط والحيرة والتشتت  في تفسيرها لدى المجتمع، حتى لا يتمكن من التركيز على ما يدور حوله من فساد وجريمة ومستنقع آسنٍ ونفقٍ مظلمٍ يدور فيه حول نفسه من دون بارقة أمل، ويكون مُغَيَّباً عقلاً ومُزيَّفاً وعياً.

     إن الأمثلة على ذلك كثيرة في مجتمعاتنا العربية والشرقية ومجتمعنا العراقي – تحديدا-  إذ لا حاجة بنا لاستيراد الأمثلة  من باقي مجتمعات العالم العربي والغربي، ويجدر بنا أن نمثّل هنا لأخطر قضية تفاعَلَ معها وانفعَلَ بها المجتمع والعملية السياسية، والمرجعية الدينية الشيعية والسنية، وكل الأديان والطوائف والقوميات في العراق، ألا وهي ماهيّة الحشد الشعبي وماهيّة فصائل المقاومة وحقيقة تركيبتهما ودورهما بعد حرب التحرير، إذ إن عدم وضوح ماهية الفصائل المسلحة والأحزاب التي تنتمي إليها تلك الفصائل وعلاقتها بالحشد الشعبي الذي ليس هو إلا عنوانا تجتمع تحته تلك الفصائل، فالمعروف والمتداول على لسان السياسيين العراقيين إن هذه الفصائل والحشد هي قوات مسلحة عراقية، وهي تدّعي بأنها تأتمر بأمر القائد العام للقوات المسلحة ( الكاظمي حسب الفرض والواقع) ومع ذلك نرى هذه القوات تقوم بخروقات وتصرفات وتصريحات ضد القائد العام للقوات المسلحة وتهينه أمام الملأ وتقوم بعملية مداهمة لحكومته ومقره، وتقوم كذلك بتوجيه ضربات لقطعات الدعم اللوجستي لقوات التحالف وضرب القواعد الأمريكية،  وكذلك ضرب القواعد العراقية التي تتواجد فيها شركات أمريكية أو متعاقدين أمريكان، التي هي بدورها متواجدة بطلب من حكومة العراق وعلى رأسها رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة لأغراض أمنية أو لصيانة الطائرات أو المعدات العسكرية ، ومع  هذا كله فإن هذه الفصائل والحشد يتبعان _في نهاية الأمر من الناحية السياسية_ لأحزاب متواجدة في البرلمان وعلى رأسها تحالف الفتح بقيادة هادي العامري، وقانون الأحزاب يمنع من أن يكون للحزب جناح عسكري، وهذه الأحزاب هي نفسُها من قامت بتنصيب الكاظمي رئيساً لمجلس الوزراء وقائداً عامّا للقوات المسلحة!.

     ولا يخفى أن قائد القوات المسلحة العراقية وُجِد بفعل الأحزاب السياسية الشيعية التي لها قوات عسكرية، وهذه القوات تدعي أنها تابعة للقائد العام للقوات المسلحة ثم هي نفسُها تهينه وتحاصره ولا تتبع أوامره، فهل يوجد خلط وتشتيت وتزييف للوعي في أي مشهد سياسي في العالم أكثر من هذا ؟!.

     نريد هنا أن نضع أيدينا على بعض المفردات التي تستعمل ويتم الإصرار عليها لغاية آيديولوجية تصب في نهاية المطاف في مصلحة جناح سياسي يحاول اللعب على الوتر العاطفي والأخلاقي لدى الشعب العراقي وهو الشعب المعروف بانفعالاته العاطفية وردود أفعاله التي تتاثر بالمفاهيم الأخلاقية النابعة من تراثه وتقاليده القبلية والدينية، فنجد أن ذلك الجناح السياسي على الرغم من كل ما عاثه من فساد وظلم في حق الشعب يحاول شحن المجتمع للاصطفاف معه من خلال التمسك ومخاطبة الجماهير بتلك المفاهيم والألفاظ والمصطلحات التي يتفاعل معها المجتمع بطبيعته القبلية والدينية، لكنها في الوقت نفسه تعمل على تفتيته وتشتيته وتزييف وعيه؛ ليعيش حالة من الحيرة والتناقض الداخلي.

 من هذه المصطلحات:

 “التقديس أو القدسية أو المقدس”: هذا المصطلح الذي لايمكن أن يكون له ذلك الصدى والاهتمام في الدولة العلمانية الخالصة والدول الحديثة التي تعتمد على المهنية والاختصاص والمؤسسات والتنافس الإنجازي في خدمة المواطن والوطن، لكنه مصطلح فعّال جداً في بلداننا العربية والشرقية بشكل عام، والعراق على وجه التحديد، فحينما تكون القوة الأمنية قوة مقدسة وتنتمي في هيكليتها إلى المكون الأكبر عدداً في الوطن، في حين تُنتزع تلك القدسية من الجيش الرسمي، فهذا يعطيك فكرة واضحة على أن ربط كلمة (المقدس) بتلك القوة الأمنية نابع من إرادة سياسية مؤدلجة تريد أن تؤدلج الوعي الجمعي وتتناغم مع عاطفته الدينية الخاصة لكي يبقى مشدودا إليها حاميا ومسانداً لها على كل ما اقترفته من فساد وجريمة في حقه هو أولاً وفي حق بقية الشعب العراقي ثانيا.

“الحشد الشعبي” هو الآخر من الألفاظ التي ولدت مع القوات الأمنية المقدسة التي عزفت على وتر حساس ألا وهو “حفظ العِرض والدفاع عنه”،  حيث يعلم كل عراقي مدى حساسية هذه الكلمة وتأثيرها في الشخصية العراقية وهي من الألفاظ التي تنبع من تراثه القبلي، ولها بعد ديني في الأدبيات الإسلامية،  وتعد من أخطر الألفاظ الاجتماعية التي يتحاشى العراقي المساس بها ويجعلها فوق كل اعتبار آخر، ويتجاوز بها حتى الدين والمذهب والفقه والقانون إن لزم الأمر.

فهل يمكن أن نتخيل أن هذه العبارات التي أطلقت ويتم الإصرار عليها وربطها بتلك القوة الأمنية الخاصة اعتباطاً؟!.

 وهل سمعتم على مدى التاريخ أن جيشاً من الجيوش العالمية أو العربية أو الإسلامية خاطب شعبه أو مجتمعه بأنه حفظ أعراضهم في هذه الحرب أو تلك؟

وهل يمكن أن يكون هذا التعبير تعبيراً أخلاقياً يفرح به جميع أبناء الوطن؟

     يتبين لنا بوضوح وجلاء أن وراء هذه المصطلحات توجه خاص يسعى إلى استفزاز باقي المكونات من هذا الشعب، وعملية إيحاء مبطن في أشرفية وعلوية وتميّز هذه القوة الأمنية دوناً عن غيرها من القوات الأمنية الأخرى، فلو كانت هذه القوة المسلحة  ومن يقف وراءها قوة عراقية وطنية خالصة تنظر إلى الشعب العراقي ككتلة واحدة، ولا فرق بين جميع مكوناته وأن واجبها كواجب الجيش العراقي، وهو حماية الوطن والمواطن من الاعتداء الخارجي فقط دون الولوج بالعملية السياسية ودون رفع الشعارات المذهبية ودون إطلاق المصطلحات التي تمس الشخصية العراقية واعتباراتها القبلية والأخلاقية والدينية لما فعلت ذلك كله.

     إذن حقّ لنا أن نفهمها أنها محاولة لتزييف الوعي الجمعي العراقي وحرفِهِ إلى وعي ضيق آديولوجي، لا علاقة له بالوطنية الخالصة، ولا باحترام الشعب والدفاع عنه وعن كرامته وأرضه، ولا هو تابع حقيقة للقائد العام للقوات المسلحة، وإنما تابع لقياداته الخاصة التي يأتمر بأمرها فقط وفقط، ومن ثم قد تنتهي سلسلة الأوامر إلى خارج العراق كما هو واضح بل أوضح من الشمس في رابعة النهار.

“الاحزاب السنية والشيعية” مصطلح هو الآخر من المصطلحات التي تم تصديرها خلال هذه الحقبة السوداء من تاريخ العراق الحديث، التي تجعل وعي الفرد والمجتمع العراقي وعياً زائفاً، وحائراً يصعب عليه التعامل مع هذه الاحزاب السياسية بشكل حر ومنطقي بل يحتاج إلى تفكيك وحذر مستمرين من أن يصيب المذهب في محاولته لنقد وتجريح وفضح وتعنيف هذه الأحزاب، فلا هو تحالف  يمثل المكوّن السني ومذاهبه الأربعة أو يتبع فقهها أو أخلاقها أو اعتقاداتها، ولا هو حزب يحقق رغباته وطموحاته،  بل هي تسميات فرضتها المحاصصة البغيضة التي مزّقت العراق والشعب ايّ ممزَّق، ولا حزب الدعوة الإسلامي أو التيار الصدري أو تحالف الفتح أو تيار الحكمة تابعة بهيكليتها السياسية والعسكرية ومشاريعها ورؤيتها للدولة للمذهب الشيعي أو يمثل المكوّن الشيعي أو يمكن أن يمثل معاناة اتباعه، بل إن أول المتضررين وأكثرهم انتهاكا كان هو الوسط والجنوب العراقي ذو الأغلبية الشيعية من أحزاب التشيع السياسي الفاسد، الذي تفنن في عمليات تزييف الوعي لهذا المكوّن المنكوب المهتضم.

ثانيا: إشغال المجتمع بمشاكل ثانوية

     لقد ذكرنا آنفا واحدة من أهم أدوات تزييف الوعي المجتمعي وهي خلط الأوراق وعدم وضوح المفاهيم المطروحة، حيث أنها تُطرح بضبابية عالية وبشكل غير مفهوم، هنا سنتطرق إلى أداة أخرى لا تقل خطورة في تزييف وعي المجتمعات والشعوب ألا وهي إشغال المجتمع في معارك ومشاكل ليست أساسية أو مهمة، وإنما هي مشاكل ثانوية ليست ذات تأثير  في واقع المجتمع الحالي، وليست مما يجب أن يتم الاهتمام بها والتصدي لها أولا وتحديدا ومباشرة ألا وهي المشاكل والمعارك التي يجب أن ينبَّه عليها المجتمع، ويكون تأثيرها أكبر، وتشغل حيّزاً أوسع في المجتمع .

      حينما تصرّ القنوات الإعلامية التابعة لبعض الأشخاص او الأحزاب أو الجهات المحسوبة على الفكر العلماني والحداثوي على تكريس كل برامجها في محاربة رجل الدين والمؤسسات الدينية والتقليل من هذا المذهب وذاك، والتندر على المتدين، فهو بلا شك عندي نوع من أنواع تزييف الوعي؛ لأنهم يحاولون أن يشغلوا المواطن بمعركة وحرب مع هذه الفئة أو مع هذا الفكر الديني في وقتٍ يعاني فيه المواطن ومجتمعه من أزمات اقتصادية وسياسية وفساد منظم أجهز على الأخضر واليابس، وضرب منظومة القيم والأخلاق والعدالة، ومزّق النسيج الإجتماعي والأسري، وإنّ الوقوف بوجه هذا الدمار العاصف بالبلد والشعب هو المعركة والمسؤولية الحقيقية التي على المثقف والواعي أن يتصديا لها ويقفا بوجهها ويحاولا أن يقوما بدورهما في توعية الناس والوقوف بوجه هذا الظلم والفساد عن طريق التظاهر والكتابة والنشر ومساعدة الناس بأنواع المساعدات التي يتمكن منها، لا أن ينصب همّه على تغيير الشخص الفلاني من متدين إلى غير متدين، أو يهاجم الأديان صباحاً مساء.

      ولا يفوتني أن اذكر مثالا آخرا للطرف المقابل وما يقوم به أصحاب الهمّ الديني وما يقوم به إعلامهم وعيونهم الإلكترونية والمنبرية من تزييف للوعي المجتمعي حينما يصورون للمجتمع أن مشاكلهم وحرمانهم وفقرهم ومأساتهم تكمن في تركهم  للواجبات والمستحبات الدينية، أو فعل المحرمات الشخصية كشرب الخمر واستماع الاغاني.

ثالثا: ضخ المعلومات الكاذبة

      قد يكون أكثر وجوه تزييف الوعي المجتمعي وضوحا وظهورا هو ضخ المعلومات الكاذبة، وبيان ونشر نصف المعلومة والحقيقة، أو اقتطاعها من سياقها وتقديمها للشعب والمتلقي على أنها الحقيقة الكاملة، كل ذلك يعد خيانة للعلم والمعلومة والإعلام وهو أظهر مظاهر تزييف الوعي لاسيما مع هذه الثورة التكنلوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي واتاحتها لكل فرد وفي كل مكان.

     في ظل هذه الجريمة التي أصبحت ممنهجة وسريعة الفتك في المجتمعات يأتي دور المثقف والواعي فما لم يشاركا ويأخذا دورهما في تفنيد وتصحيح هذه الموجات المرعبة من المعلومات الكاذبة والخاطئة والناقصة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي نفسها فإن المجتمع لن ينفك عن جهله وسذاجة تفكيره  وتزييف وعيه او غيابه تماماً.

يتبع…

ماهر سلطان/ استراليا

2021

ماهر سلطان

ماهر سلطان .من مواليد ١٩٧٠ بغداد الكرخ كاتب وباحث غير متخصص في المجالات الانسانية من الاجتماع والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين‎‎.
زر الذهاب إلى الأعلى

Sign In

Register

Reset Password

Please enter your username or email address, you will receive a link to create a new password via email.