أعلن معنا... أعلن معنا...
مقالاتمقالات ودراسات نقدية و بحوث

وعي الشعب – جزء 4 والأخير – ماهر سلطان

كلام في المعيارية

ثمة تساؤلات تستحق الوقوف عندها وقفة تأمل وتحليل، فقد ذكرنا في الأجزاء السابقة أن كل امرئ يتمتع بوعي ما، يختلف هذا الوعي ويتأثر بحسب الثقافات المجتمعية ومدى سلطتها في المجتمع، حيث ذكرنا أبرز ثقافتين مؤثرتين في الوعي المجتمعي هما؛ الثقافة الدينية والثقافة القبلية، وكذلك ذكرنا أن مجموع التجارب والظواهر التي يتفاعل معها الإنسان فيما مضى من حياته لها أثر في وعيه أيضا، مما يجعلنا نطرح تساؤلا هو: ما المعيار في كون وعي فلان  أفضل من وعي فلان الآخر؟ ولماذا الوعي الذي يكون مأخوذاً من الثقافة القبَلية هو أفضل من الوعي المصاغ من الثقافة الدينية أو العكس؟  وما هو الوعي الذي نتبناه ونعتقد به وبإنتاجه وفاعليته الإيجابية في المجتمع  ونحث الآخرين عليه؟

آلية التعرف على الأشياء

للإجابة عن السؤال الآنف ذكره لابد من مقدمة موجزة  عادة ما يتم ذكرها في بحوث نظرية المعرفة الإنسانية، وهي أن بني البشر كي يتعرفوا على  الأشياء المحيطة بهم  فهم يمرون بمراحل:

 المرحلة الأولى: تتجلى في وصول إشارات من العالم المادي إلى الإنسان عن طريق الحواس الخمسة المعهودة من النظر واللمس والسمع والتذوق والشم.

المرحلة الثانية:  مرحلة العقل الذي بوساطته تتميّز  المصادر التي صدرت عنها تلك المحسوسات، وطريقة عملها وأسباب وجودها وكيفية حدوثها وكيف يتعامل معها.

إن لهذا العقل آلاف العمليات التي يجريها في الوصول إلى النتائج التي يتوخاها ويبحث عنها، ومع ما لهذا الجهاز (المخ،العقل)  من قابليات مهولة وإمكانيات جبارة فهو  يجعل الإنسان من بين كل المخلوقات متفردا بميزة العقل، إذ يطلق عليه بالمخلوق العاقل.

ولكن مما يؤسف أن هذا العقل لم يجد كثيراً من الاحترام والعناية بعملياته وقدراته الجبارة  في العصور السالفة؛ لأن المجتمعات كانت محكومة بسلطات لا يمكن أن تعطي العقل المساحة الواسعة التي يمكن أن يشغلها في حياة  البشر أو تسمح له بإبداء رأيه فيها أو نقدها أو تصحيح موروثاتها التي في الغالب  كانت عبارة عن روايات وردت على لسان الآباء والأجداد وتفسر كل ما يدور من حولها  بتفسيرات متوارثة  كانت تعتمد على الأسطورة والخرافة إذ كانت مقبولة آنذاك، أما اليوم في ظل أفول نجم الموروث وأساطيره وثبوت عجزه في إدارة الحياة أثبت العقل قدراته وأصبح العنصر البشري يثق به وبمخرجاته وتحليلاته وتفسيراته للكون والأشياء التي تحيط به في هذا العالم، حيث كان ذلك كله بفضل الثورة الإنسانية التي قدم لها عشرات المفكرين والعلماء والفلاسفة والأفذاذ  ممن ساهم بسهمه وأدلى بدلوه في ترسيخ المنظومة الحديثة للإنسانية في حضارتها الأخيرة التي انطلقت من أوربا تحديدا ثم شملت بخيراتها كل أرجاء المعمورة من بعد الثورة الفرنسية الكبرى إبان عام ١٨٧٩م.

أثر الآيديولجيا في وعي الفرد

من شأن الآيديولوجيا أن تكون من مضللات الوعي الإنساني، ومن أكبر العوامل في تعتيم رؤية الفرد المؤدلج، لابد لنا أن نعرف بها تعريفا موجزا مبسطا غير مخل.

الآيديولوجية هي مجموعة من المُعتقدات و الأفكار التي تؤثر في نظرتنا لـلأمور، أو أنها مجموعة القيم والمشاعر التي نتمسك بها بشكل كبير، وهي بمثابة الغربال الذي نرى من خلاله كل شئ و كل شخص، وكل فكر، حتى نرى المؤدلج في محضر النقاش في فكرة ما تخالف تبنياته لا يأخذ من الموضوع سوى أسلوب الدفاع عن فكرته والهجوم على فكرة المخالف له.

تتعدد وتتنوع وتختلف الأيدولوجيات، فهي على أنواع منها؛ الاخلاقية والسياسية والقانونية والمعرفية والإقتصادية والعرقية والدينية وغيرها، ونرى أن الشخص المؤدلج يكون متطرفا في الأعم الأغلب، حيث يظن أن معتقداته و أفكاره هي الشيء الطبيعي والحقيقي بشكل واضح، حتى لو كانت تلك المعتقدات خاطئة، فإن إيمانه بها يوهمه أنه يمتلك الحقيقة المطلقة

بعد هذا العرض الموجز لمفهوم الآيديولوجيا يتبادر إلى الذهن تساؤلا يدور في فلكها، حيث أننا كثيرا مانرى أفرادا ليسوا بالقليلين  يحصلون على اختصاص ولقب علمي بوساطة الدراسة الأكاديمية التي يفترض أن تكون بنيت على منهجية علمية وأسس منطقية عقلانية سواء أكانت دراسة نظرية أم تطبيقية، فالفرد منهم يزاول عمله في المجتمع ضمن هذا الاختصاص في كافة مجالات الحياة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وغيرها، ولكن حين يكون النقاش في موضوع متعلق بأدلجته الخاصة يسلّم به حتى لو كان مخالفا للمنهج العلمي والعقلي والمنطقي الذي درسه وأصبح مختصا فيه، بمعنى أنه يتنكر لهذا المنهج للدفاع عن فكرته الراسخة في وعيه، فكثير من القضايا التي ينتقدها في منهجه العلمي نراه يخالفها في نقاشاته الآيديولوجية التي ينتمي إليها، كأن يتحدث عن الهوية الوطنية أو العرقية أو القومية أو الدينية أو المذهبية أو أي آديولوجية أخرى ينتمي إليها؟

معيار صحة الوعي الإنساني

 بعد النهضة الفكرية التي أعقبت الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر بات من الضروري أن نحتكم لهذا العقل ولهذا الميزان الوحيد الذي يشترك فيه جميع بني البشر، فقد أضحى الإنسان يتميز عن سائر المخلوقات بامتلاكه العقل الذي يعد المعيار والمقياس الذي تقاس به أرجحية وإيجابية الوعي بين شخص وآخر، ودليلنا في هذا التبني والاختيار لهذا المعيار دون غيره من المعايير والأدوات هو عدم وجود أرضية  وأدوات مشتركة بين بني البشر غير العقل، فالتقاليد  والنظم والقوانين المجتمعية المأخوذة من هذا المجتمع هي في الغالب مختلفة مع المجتمعات الأخرى ولها ظروفها وجذورها التاريخية التي جعلت منها مقدسة بالنسبة لهذا المجتمع دون المجتمع الآخر، حتى الأديان وعقائدها الدينية ورواياتها وأدبياتها كذلك تختلف بين مجتمع وآخر، إذ يختص كل دين بروايات وعبادات وأدبيات يتعبد بها أفراده دون أن يكون لها  أثر أوتفاعل مع ما يتبناه مجتمع آخر  من ديانة أخرى.

وعليه فلا يمكن أن نجعل بعض هذه العقائد أو تلك النصوص الدينية أو النظم الاجتماعية هي المعيار والمقياس الذي نحاول أن نقيس عليه بقية المعتقدات والأفكار والتوجهات أو النظم الاجتماعية الأخرى، بل لابد من إيجاد الأداة المشتركة التي يمكن أن تعطينا نوعا من الحيادية باعتبار اشتراكها بين أفراد ومجتمعات العالم.

وبعد العجز الواضح من وجود أي إمكانية لتبني خطاب تشترك فيه الأمم والشعوب غير الخطاب العقلي وتنظيراته، توجّبَ علينا الانصياع لهذا العقل والاعتماد عليه قدر الإمكان حتى لا ننزلق في خنادق الشعبوية والشعوبية والقبلية والدينية والطائفية والعرقية والعنصرية.

وعليه فنحن نتبنى موقف حسر المعيارية ووحدة القياس بمفهوم مركب من العقل والآثار الناتجة عن تطبيقاته التي تدخل في منظومة المبادئ الاخلاقية ( كما سنوضحه لاحقاً) ، مع اننا في هذا التبني لا نريد أن نتنكر في  الوقت عينه إلى الاختلاف الطبيعي الذي يصدر من العقول البشرية المتوازية، فلا يمكن أن ندعي أن الأفكار البشرية موحدة ويمكن التطابق بينها، ولا ندعي تطابق مخرجاتها  وتحليلاتها وتفسيراتها؛ لأن ادعاءنا ذلك سيخرجنا عن الموضوعية والإنصاف.

ولكن كما ذكرنا في صدر هذا البحث، إننا لم نجد أفضل من هذه الأداة (العقل) لتكون مشتركة بين بني الإنسان ويمكن جعلها معيارا ومقياسا مشتركاً، فالعقل على اختلافه ومحدوديته وقصوره إلا أنه يبقى هو الأكثر موثوقية في التعرف على الأشياء والمقارنة بينها والوصول إلى أسرار العالم وتفسيرها تفسيرا يمكن أن يحظى بقبول الجميع أو الغالبية العظمى.

الوعي المحكم والوعي المؤدلج

 في ضوء ماتقدم فنحن نرى أن الوعي الذي تشكل على نحو عقلاني في التفكيك والتحليل والمقارنة والنقد والبحث ثم الاستنتاج هو الوعي المحكّم الذي يستحق أن يطلق عليه وعي بالمطلق، وإذا قلنا الإنسان الواعي فمقصودنا منه هو  الواعي وعياً عقلياً كما بيّنّا.

 ولكي نفهم بدقة أكبر بعض حركات المراوغة المشوهة التي تبعث على التشويش لدى المراقب علينا أن نستفسر عن الغرائبية الفجة في تعامل الفرد المؤدلج بآديولوجية ما، حين يتوجه بالنقد العقلاني المنطقي لفكرة أو ممارسة تنتمي لآديولوجية مخالفة له، بينما تراه في غيبوبة كاملة وغفلة مطبقة لما ينخر منظومته الفكرية التي ينتمي إليها وما يحيطها ويتخللها من خرافة ولا عقلانية ولا حتى  أخلاقية، وتجده يذعن ويسلم لها بذلك، بل يدافع عن تلك اللاعقلانية واللاأخلاقية بحجج ذات أشكال عقلية وقوالب منطقية، بمعنى أنه يكيل بمكيالين مختلفين تماما في الموضوع نفسه، وهذا ما يسمى بالمغالطة المنطقية وتحديدا بالانحياز التأكيدي، حيث ينحاز الفرد لما ينتمي إليه بشكل مؤكد دون أن يلتفت لنفسه أنه قد انحاز لذلك.

هذا كله يضعنا أمام حقيقة لابد من مواجهتها وهي كون الإنسان الذي ينقاد إلى فكر معين ويكون معتقداً به بحيث يكون متداخلا في تركيبته وشخصيته وينعكس على مجمل أفكاره وتحليلاته وقناعاته وزاوية نظره للأشياء، فهو إنسان صاحب آديولوجية ووعي ناقص بالضرورة، ومثل هؤلاء الأشخاص يصعب عليهم توجيه النظر إلى كل المشهد، أو ينظر إليه من زاوية واحدة ضيقة هي الزاوية التي صاغها وبلورها وعيه الناقص المؤدلج بتلك الآديولوجية التي تبناها،

مع ذلك تجد هذا الشخص يتمتع باليقين بالمطلقات ولا يتطرق للنقد الذاتي له إلا ما ندر؛ لكونه بتلك الآديولوجية يكون نرجسياً إلى أبعد الحدود كارهاً للنقد الذاتي والموضوعي؛ لأنه لا يستطيع الوقوف على مسافة بعيداً عن ذاته وشخصيته المؤدلجة ليحكم عليها بموضوعية وحيادية؛ لأن الإنسان لا يمكن له أن يرى الصورة كاملة إذا كان منغمساً فيها وجزءاً منها، بل يجب عليه أن يأخد تلك المسافة والارتفاع المناسبين؛ كي يتسنى له رؤية المشهد والحدث من زوايا متعددة وبشكل أكثر إحاطة لكي يكون نقده وتحليله ثم حكمه موضوعياً وحياديا.

ماهر الشمري2021

ماهر سلطان

ماهر سلطان .من مواليد ١٩٧٠ بغداد الكرخ كاتب وباحث غير متخصص في المجالات الانسانية من الاجتماع والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين‎‎.
زر الذهاب إلى الأعلى

Sign In

Register

Reset Password

Please enter your username or email address, you will receive a link to create a new password via email.