أعلن معنا... أعلن معنا...
مقالاتمقالات ودراسات نقدية و بحوث

وعي الشعب – جزء 3 – ماهر سلطان

منابع تشكّل الوعي

     يتشكل الوعي لدى الفرد من مجموع الثقافات والظواهر التي تتراكم بتشعباتها، وربما تناقضاتها أحيانا ثم تنتشر في المجتمع،  حيث أن الفرد لا يسعى إلى تفكيكها  ودراستها بشكل علمي ليصوغ منها الشخصية المتوازنة المتصالحة والصحية التي يصدر منها الفعل المنسجم مع أبعاد تلك الشخصية، وإنما في الغالب يتناغم الفرد مع وعي المجتمع العام والثقافات والظواهر التي كونت ذلك الوعي دون إرادة واختيار عقليين ومنطقيين، فإذا كان ذلك هو الطابع العام الذي يصطبغ به وعي المجتمع، فعلينا هنا أن نقوم بنوع من الفحص والتمحيص لتشخيص أهم الثقافات الفاعلة في المجتمع العراقي، التي قد يشترك فيها مع بعض المجتمعات والشعوب الأخرى التي تماثله بحكم الطبيعة الجغرافية والتاريخية والظروف والتأثيرات المشتركة.

الثقافات المؤثرة في المجتمع

     مما لاشك فيه أن هناك ثقافات عدة مؤثرة وفاعلة في المجتمع ذات تأثير في وعي الشعوب، يمكنني القول – من وجهة نظري الشخصية – إني لا أتردد في الحكم على كون الثقافتين  القبلية والدينية هما أهم وأوضح الثقافات التي تطغى وتظهر في  المجتمع العراقي، ولو شئنا الإشارة إلى تلك المظاهر والصفات والملامح التي تبرز بشكل جليّ فيه، فهي في أغلبها ترجع إلى هاتين الثقافتين أو الملفّق منهما، مما قد يعسر على الكثيرين معرفة جذوره الحقيقية وإلى أيٍ منهما يعود تحديداً.

  1. الثقافة القبلية

     إن مظاهر الثقافة القبلية يمكن التعرف عليها بسهولة في يوميات الفرد العراقي ونشاطاته حيث لها الأثر البالغ في معاشرته واستقبال ضيفه وطريقة حديثه والتعبير عن احترامه وغضبه وتعامله وتفاخره بالقبيلة ولهجتها وسننها ورموزها وتعاطيه مع المرأة وتعاملها معه بالمقابل، وقضايا الخصومات والثأر والفصل العشائري وطريقة الزواج وبقية الاعتبارات القبلية التي تجتاح المجتمع، كما لا يخفى، ومن بين تلك المظاهر القبلية ظاهرة التمجيد برئيس القبيلة ورموزها والمبالغة في وصفه  والحديث عنه بشكل أسطوري مخترع أو مقتبس من أساطير لأناس آخرين ونسبتها إليه، وحياكة روايات غير معقولة حوله إذ يتم تعميمها ومداولتها في ليالي السمر للمستمعين والناشرين المبالغين،  لعل أكثر ما يتم التركيز عليه ويجذب الشخصية القبلية هي صفة الشجاعة والمواقف البطولية، ولا يستبعد أن يكون ذلك من أهم الأسباب التي جعلت الشخصية العراقية تميل بشكل أكبر إلى الرموز الدينية التي صورها التاريخ بصورة الشجاع المقدام دون غيرهم مما يؤدي إلى انجذاب الأفراد إليها حتى وإن كانت أقل مرتبة دينية من الرمز الآخر كما في تفاعل العراقي – على سبيل المثال- مع شخصية العباس بن علي بن أبي طالب أكثر من تفاعله وانجذابه لشخصية الإمام الباقر أو الصادق أو الجواد حيث أن الأول غير معصوم في عقيدتهم، فتراه يتقبل في حقه كل ما يمكن أن يقال بما يخالف العقل والمنطق وما لا يصمد أمام النقد والتحليل.

     يكفي أن تتأمل الترابط  البيِّن بين هذه السنّة البدوية القبلية وبين عشرات الروايات الدينية التي ركزت على صفة الشجاعة والمواقف البطولية، فخرجت لنا بأدبيات طافحة في هذا المعنى قد لا تنسجم في تفاصيلها مع المبادئ والأخلاق الدينية العليا نفسها، بل تتعارض معها أحيانا بشكل فج صارخ، كعملية قطع الرأس بعد القتل والتمجيد والتباهي بها إذا نُسِبَت إلى الرمز الديني، مع أنها من أظهر مصاديق (المُثلة) المحرمة في الإسلام حتى مع الكلب العقور كما ورد في الحديث المنسوب إلى النبي (ص)، أو القتل دون قيام الحجة والدليل على استحقاق ذلك المقتول بسيف الرمز الديني الذي نريد أن نظهر شجاعته وعنفوانه حتى على حساب قاعدة دينية فقهية تامة واضحة مأخوذة من الروايات الدينية التي تقول (الحدود تُدرأ بالشبهات).

     فهذه القاعدة تعني أنه مجرد حصول الشك والشبهة في ثبوت الجرم يمنع إجراء الحد والقصاص على المتهم مباشرة، ناهيك عن الكمّ الهائل من الخرافات والأساطير التي ملأت الكتب الدينية تحت عنوان المعاجز والكرامات للأولياء وما تعلق بهم، التي ادعتها كل الأديان والمذاهب بلا استثناء، لم يكن الغرض منها سوى تمجيد الرمز أو الانتقاص من أعدائه.

      لقد أثر ذلك كله بشكل فظيع في تبلور شخصية ووعي العراقي، إذ جعلت من طريقة تفكيره ومن عقله مسرحاً وارضاً خصبةً لتقبل الخرافة والأسطورة وكل ما هو غريب وغير منطقي ولا عقلائي، فأخذ يتماهى مع حركات وتيارات وفرق وأفكار لا تمت إلى الأخلاق والعقل بصلة، فقط لكونها تتحدث بلغة دينية تدّعي الخوارق والكرامات وتنسب نفسها إلى الغيب والاتصال الخفي بالله أو بأوليائه أو بعض المخلوقات التي لا عين لها ولا أثر.

  •  الثقافة الدينية

     للثقافة الدينية في المجتمع العراقي دور فاعل وكبير لا يمكن التغاضي عنه أو التنكر له؛ لأننا سنخرج بذلك عن الإنصاف والحقيقة والموضوعية، حيث كان لتلك الثقافة المعتدلة أثرها المتميز في التربية عبر التعاليم الدينية التي تحث على الأخلاق الحميدة التي كان يتلقاها الأبناء في نعومة أظفارهم وصباهم، إذ كانت هي اللغة التي يعرفها الآباء الذين أشربوا بثقافة مجتمعهم الدينية، فالتربية والتعليم المنزليين كانا بلغة الأخلاق الدينية أكثر مما كانت تربية أخلاقية عامة، فالسرقة كانت حراما لا يحبها الله قبل أن تكون رذيلة أخلاقية إنسانية، والكذب حرام قبل معرفة قبحه وأثره السيء في النفس والمجتمع، وعمل الخير محبوب لله ونيل لرضا الله والثواب معه بغض النظر عن حسنه وإحياء للمجتمع وتحقيق لسلامته، فالفرد يفهم أن السارق يدخل نار جهنم دون أن يعي  أنه عمل غير أخلاقي وله أثر سيء في المجتمع، والذي يقتل في سوح القتال فهو شهيد في الجنة وليس بدافع وطني، وهكذا.

     أما لغة الأخلاق المجردة عن تعليلات الثواب والعقاب الأخروي التي تحث على العمل الأخلاقي لمبررات إنسانية واجتماعية خالية من الحس الديني فهي كانت غالبا ما تأتي في مراحل متقدمة من عمر الفرد العراقي، أيّ حينما ينمو عند الفرد الشعور بالحياء الإجتماعي وإدراك المسؤولية التي تترتب عليه إجتماعيا وأخلاقياً في التصرفات غير اللائقة، وما ينجم عنه من ديمومة صحية في الأفعال الخيّرة التكاملية للمجتمع؛ لذا كانت الأسرة تشعر بالاطمئنان النفسي إذا التزم أبناؤها دينياً، حيث تأمن بذلك عدم انحرافهم خلقياً أو لكونهم سيجنّبونهم المشاكل المجتمعية من الاعتداء على المجتمع أو اعتداء المجتمع عليهم لاسيما وإن نظرة المجتمع إليهم ستكون إيجابية للغاية في حال التمسك الديني على أنهم أفراد صلحاء، مؤدبون ومأمون شرهم، وبالتالي سيأمن ذات المجتمع من العنف والاعتداء على حقوقه وتقاليده ومبادئه وناموسه ونواميسه.

     في ظل هاتين الثقافتين القبلية والدينية كان التيار اليساري المنفتح بما لديه من بذور وعي بالحداثة والتأثر بالثقافة الغربية واستلهامها ببعديها الثقافي والحضاري المشرق، يحاول أن يفرض نفسه على الشارع العراقي والمجتمع، وكان مراقَباً بلا شك من قبل المجتمع القبلي والديني تحديدا، فالتيارات المدنية كانت تيارات عقلانية مطلعة على ما لا يطلع عليه بقية المجتمع، وكانت تمتلك إمكانية النقد للمؤسسة الدينية والقبيلة والتقاليد البالية وغير المنطقية، وتعيب على الجهل  وتتصدى بالسخرية والكتابات النقدية والأشعار على ما تصدره المؤسسة الدينية من فتاوى لا يمكن أن تخدم المجتمع وحركة التاريخ المتسارعة نحو التطور والتقدم والمدنية والتكنولوجيا والعلم، ولكن الحق يجب أن يقال هنا بأن نهاية تلك المعركة وإنْ كانت لصالح الفكر المدني المنفتح إلا أنها كانت مشوبة بالخوف والحذر من سطوع الحس القبلي الذي انصاع هو الآخر للمؤسسة الدينية وكان من أدواتها الطيّعة، وذلك لأسباب منها؛ إن النظام القبلي بطبيعته مخالف لمفاهيم الحداثة مثل الفردية، بينما يقوم المنطق القبلي والطبيعة العشائرية على طاعة شيخ القبيلة أو العشيرة ويلغي فردية وشخصية الفرد وعقله في قبال شخص الشيخ وكلامه، وكان معظم شيوخ العشائر والقبائل ينصاعون للفقهاء؛ أولا لأنهم يعتقدون بأنهم الطريق الأوحد الى الله، وثانيا؛ لأن ذلك يجعلهم ذا حظوة عند الفقيه وعند العشيرة ويعلي من شأنه بينهم.

     على الرغم من أن المؤسسة الدينية التقليدية بما تمتلكه من قاعدة شعبية واسعة ولكنها تعدّ متواضعة (بحسب معطيات الواقع من الناحية الفكرية) ولكنها بالرغم من ذلك الفقر الفكري في المناهج العلمية الحديثة وفي وسائل جذب المجتمع وتطوير وعيه، الا انها تمكنت من إيصال تأثيرات الصحوة الإسلامية التي انطلقت في بدايات القرن المنصرم مع الافغاني ومحمد عبده كما ذكرنا ذلك مسبقاً، وأثرت فيها التأثير الأكبر وأعانتها مؤسسة الأزهر وتبنتها هناك، تلك الصحوة التي اجتاحت البلدان العربية ومنها العراق الذي كان مؤهلاً لها باعتبار وجود حوزة النجف العريقة فيه  والتي يمتد عمرها إلى قرابة الألف سنة.

     استطاعت هذه المؤسسة أن تضرب التيارات المدنية وتنفّر الناس منها عن طريق تشويه كل مفاهيم الحداثة والمدنية والعلمانية والديمقراطية والفردية والعقلانية. ومما زاد الأمر سوءا في هذا السياق هو تنامي الخط اليساري والاشتراكي الشيوعي في العراق وفي الدول العربية بل العالم اجمع في تلك الآونة،  إذ كان هو الحزب والتيار الأقوى والأرسخ والأنضج والأكثر ثقافة وتضحية من بين كل الحركات والأحزاب والتيارات الأخرى، وبما أن الحزب الشيوعي له بعد فلسفي ينتهي به إلى نظرة إلحادية ومادية للكون، فقد شكّل ذلك أكبر ذريعة للفكر الديني والمؤسسة الدينية للطعن بهذا الحزب، حيث ظهرت الفتوى الأقوى والأشهر “الشيوعية كفر وإلحاد”([1]) في ستينيات القرن الماضي، وبهذا الطعن والضرب في التيارات اليسارية والحزب الشيوعي، تم تصوير التوجه المدني والعلماني وباقي مخرجات الحداثة والانفتاح كلها في حزمة واحدة على أنها  من مظاهر  الشيوعية والكفر والتشبه بالغرب الكافر، وأن ما سينتج عن التماهي مع الحداثة هو الكفر والتحلل الأخلاقي وفساد المجتمع وسخط الله، وبقية الشعارات المعهودة في الخطاب الديني التقليدي وكانت الفتوى المذكورة آنفا أبرز تجليات ذلك.

     علينا أن نصدح بما نعتقد ونعلم في هذا الشأن وإن كان من باب التحليل الاجتماعي لتيار بعينه  في المجتمع العراقي .

     لسنا في معرض الدفاع عن الحزب الشيوعي العراقي أو مدحه، ولسنا بصدد الإساءة لأحد من مناوئيه ومخالفيه، ولسنا ممن ينتمي لهذا الحزب أو من المروجين له، ولكن الحق يجب أن يقال هنا كشهود على هذا الحزب الذي أثبت وطنيته كأحد أقدم الأحزاب وأكثرها تضحية وممارسة للعمل السياسي المعارض في العراق، أما حقيقة ما يقال عن هذا الحزب وما يُتهم به في العراق فهو عارٍ عن الصحة ومجانب للحق؛ لأننا عاصرنا كثيرين ممن نعرفهم من أفراده، إذ إن الشيوعي العراقي، والحزب الذي كان في العراق، لم يحملا النظرة الفلسفية ولم يتأثرا بالبعد الفلسفي والإلحادي للفكر الذي تعود أصوله إلى المفكر ( كارل ماركس) الألماني الذي تبنته الثورة البلشفية الروسية في عهد حكمها على الإتحاد السوفيتي السابق حتى انهيارها في عهد الرئيس كورباتشوف.

     نعم كان الشيوعي العراقي يحمل هماً آخر ولم يجد له حلاً وفرجاً إلا بالشيوعية،  ألا وهو مبدأ (الإشتراكية) والبعد الإقتصادي من الشيوعية، هذا المبدأ الذي كان يراه هو البديل الوحيد بل هو الحل الوحيد لكل ما جرّته الرأسمالية المفرطة الوحشية المتغوّلة في العالم بأسره، إذ كان حماس الشيوعي العراقي ينصبّ على هذا الجانب وما يهمه من الشيوعية هذا الوجه تحديدا، ويمكنني القول إن أغلب الأحزاب والتيارات الشيوعية في تلك الفترة كانت قد تشكلت على هذا الأساس ولأجل هذا البعد الاقتصادي الاشتراكي حيث كانوا ينظرون إلى الشيوعية بما هي اشتراكية وليس  بما ينطوي عليه من بعد إلحادي مادي.

     كانت تلك الأحزاب قد قرأت جيداً النهاية التي ينحدر إليها العالم الإنساني مع ماكنة الرأسمالية الهوجاء التي ستسحق بديمومتها الشعوب والدول وتسلم زمام العالم إلى بضعة أفراد وعوائل لا مبدأ لها ولا قلب ولا رحمة .

يتبع…

ماهر سلطان

2012


[1] ) فتوى السيد محسن الطباطبائي الحكيم (1889 – 1970)، وهو مرجع دين شيعي، كان يترأس الحوزة العلمية في مدينة النجف العراقية، وكان مرجعاً وزعيماً لملايين الشيعة الاثني عشرية في العالم في “عهده”.

ماهر سلطان

ماهر سلطان .من مواليد ١٩٧٠ بغداد الكرخ كاتب وباحث غير متخصص في المجالات الانسانية من الاجتماع والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين‎‎.
زر الذهاب إلى الأعلى

Sign In

Register

Reset Password

Please enter your username or email address, you will receive a link to create a new password via email.