نافذة الحياة – قصة قصيرة – عماد هرمز
قصة قصيرة – عماد هرمز
جلس أمام النافذة المفتوحة على مصراعيها لشقته المُطلة على شارع رئيسي في ضاحية شعبية تاركاً العنان لعينيه لمراقبة كل ما هب ودب في تلك البقعة من الأرض وفي ذلك الزمن من الحياة. كان الشارع مزدحماً وفيه نشاطٌ كبيرٌ كأنه شريان قلب يعمل بلا كلل في جسد تلك الضاحية يمدها بالحيوية البشرية وينبض فيها الحياة.
ارهقته الحياة التي أصبحت مؤخرا تسير بوتيرة متسارعة ونمط واحد. وما أثار حفيظته هو رؤيته كيف أن الأيام تُسلب من حياته وأمام أم عينيه وهو عاجز عن القيام بشيء لإبطاء عقارب الزمن الذي باتت أيامه تبدوا وكأنها أقصر. وما آلمه أكثر هو رؤيته كيف يسلخ البشر جلدتهم الإنسانية ويرتدون كساءً من الصعب معرفة تركيبته ومكنوناته ويتحولون تدريجياً إلى بشر ممسوخين جسدياً وروحياً. فقرر أن يضغط على كوابح حياته لبرهة ليلتقط أنفاسه عسى ولعلى أن يجد فرصة ليمعن النظر فيما حوله ليجد معنى ومغزى وتفسيراً لما يشهده من مناظر بشرية، البعض منها محبط والأخر مقزز وغيرها مملة.
قرر أن يُجالس نفسه ويفسح المجال لمخيلته ويفحص عن كثب تصرفات البشر ويتابع شؤونهم من علياء شرفة نافذته ذات الإطار الخشبي. تخيّل أن بجلوسه أمام النافذة سيزوده بما ينشده من أجوبة على تفسيراته حول سلوك وتصرفات البشر وعن حركة الحياة ومحركّها. وتوخى على أقل تقدير أن تبعده مراقبته للبشر وتشغله عن مقيّدات الحياة اليومية في ظل أحداث حياتية دائمة التغيير والتي مؤخراً أصبحت تثير اهتمامه، بل تبهره احيانا وتحتاج إلى وقفة تأمل في وسط زوبعة عالمنا المُعاصر الذي يتوجه إلى المجهول المخيف ويقود معه البشرية نحو الهاوية الإنسانية.
جال بعينية يمينا ويسارا، شمالا وجنوبا مسجلاً ببصره مشاهد لفلم سينمائي وما أدركه جعله يشعر بأنه كان مغفلاً عن مجريات الأمور في هذه الدنيا وأنه كان ساذجاً في تصوراته لحياته الرتيبة. فهو مجرد عامل بسيط يذهب إلى عمله في الصباح ويعود في المساء ليتناول وجبة العشاء التي أحضرتها له والدته ويُطالع قليلا من الكتب التي اشتراها أو استعارها ليُفيق في الصباح الباكر ليعاود الكرة من جديد وهكذا دواليك في روتين يومي رصين شبه محتوم.
وبينما هو يتابع ما يدور في هذه البقعة من العالم لم يتوقع أن يفقد السيطرة على عينيه الموصولتين بدماغه وبحسب وظيفته الأزلية المناطة به ما فك أن يحلّل ويفسّر ويطابق مع الخبرات السابقة ويخمّن ويتوقع ليجد توضيحاً للصور التي تلتقطها عدستا عيناه. ولم يكن ما يشهده مستساغ في كل الأوقات فكان عليه أن يجبر نفسه عن غضّ النظر عن بعض ما رآه والتمعن في أشياء أخرى والغور في تفاصيل القليل منها. تعجب عند مراقبته لتصرفات الآخرين رغم أنه لم يقصد التنقيص أو الاستهزاء أو السخرية من قيامه بذلك، إلا أنه والحقيقة تقال تلذذ أحيانا عند كشفه وسبر خفايا بعض الناس. فمنها ما مقتته نفسه والبعض الآخر ادخلت السرور الساخر فيها ومنها وحرك مشاعره القليل منها.
وبينما هو يصّوب عدستا عينيه على ما يجري أمامه ليشف منها إجاباته… دوّن ملاحظاته البصرية في مذّكرة مخيلته التي سيعود إليها لاحقاً ليُحللها بحسب إمكانياته الفكرية وقدرته الاستيعابية ومرونته العقلية وتقبله النفسي. وبينما هو يراقب…
أزعجه رؤية طفل جالس مع أبيه وأشقاءه وهما يمسكان بجهاز الكتروني بشاشة وأعجبه منظر طفل جالس مع والده وهو يساعده في مناهجه الدراسية. افرحه طفلان يلعبان في الشارع واغضبه وهو يرى طفل يرد على والديه بعنف.
أغضبه منظر شباب يتداولون الممنوعات في الشوارع وآخرون يستهزئون بالناس مستهترون بتصرفاتهم في قيادتهم اللامبالية لعرباتهم والقيادة بسرعة أو الضغط على عتلة البترول لتسرع العربة مع الضغط على الكوابح مولّدة دخاناً خانقاً من الإطارات.
أحزنه منظر شخص شاب عاطل عن العمل يقضي نفسه في التفاهات وافرحه منظر زوج شاحب الوجه يعود من العمل تستقبله زوجته ليشاركها لقمة العيش مع عائلته وعطف عليه وهو يحاول جاهداً إيجاد توازن بين توفير حنان الأب للعائلة وتوفير لقمة العيش لأولاده.
أعجبه روية جماع من كبار السن يتسامرون في باحة إحدى مراكز التبضع المركزية ومنهم من يلعب الطاولة وأزعجه رؤية اشخاص في عمر يُمكنهم من العمل وهم عاطلون عن العمل. أعجبه رؤية شخص يعتني بوالده كبير السن ويساعده على الاختلاط بالناس والترفيه عن نفسه. أزعجه منظر رجال يقضون معظم وقتهم في المقاهي مبتعدين ومتغافلين ومهملين لاحتياجات عائلتهم.
أحزنه رؤية زوجه تناشد زوجها في عمل المزيد لتغطية مصاريف البيت وأغضبه منظر امرأة أخرى تطالب زوجها بالمزيد من الأساور الذهبية. وأخرى تقارن نفسها بغيرها وتنشد الغلبة على الأخرين.
استلطفه منظر عاشقان شابان جالسان في مقهى يرتشفان المشروبات الباردة المجهّزة من الفاكهة. أزعجه منظر شباب يقهقهون ويتبادلون التعليقات البذيئة على صور متحركة تظهر لنساء عاريات تظهر على أجهزة هواتفهم.
كان ساذجاً عندما تصور أنه سيتسلى ويحصل على الترفيه في مراقبته لمجريات الشارع. فلم يتوقع إن ما ترصده عيناه قد يجلب عليه عكّر المزاج أو الاشمئزاز أو حتى يثير فيه الغضب. فلم يع أن احاسيسه ومشاعره ومدركاته ومزاجه كلها مرآة للعالم الخارجي. لم يدرك بأن النفس البشرية هي الشريط الصوّري الذي تُطبع عليه مشاهد الحياة ويسجل فلماً من الصوت والصورة بطله هو ومنتجه هو ومخرجه هو.
بعد برهة من الزمن والمشاعر المتذبذبة بين المستساغ والمزعج والمفرح والمحزن لم يتحمل دماغه رؤية المزيد من تلك المشاهد البائسة فأغلق الشباب وتوجه إلى شباك أخر مطل على حديقة صغيرة لينعم بالسكون الحقيقي وليتفرغ لنفسه ويمارس هوايته ويعتني بعائلته ويكّون من وجوده مشهداً جميلا عسى ولعل هناك من ينظر نحوه من شباك بناية أعلى.
أيلول / سبتمبر 2024