كتب نقدية عن تجربتي في كتابة القصة القصيرة جداً – هيثم بهنام بردى
صدرت ثلاثة كتب نقدية عن تجربتي في كتابة القصة القصيرة جداً وهي على التوالي:1. حبة الخردل/ دراسات نقدية عن تجربة القاص هيثم بهنام بردى في كتابة القصة القصيرة جداً/ إعداد وتقديم خالص ايشوع بربر/ منشورات اتحاد الأدباء السريان– الموصل 2005. صدرت طبعته الثانية عن دار رند للطباعة والنشر والتوزيع في سوريا عام 2010.2. شعرية المكان في القصة القصيرة جداً– قراءة تحليلية في المجموعات القصصية لهيثم بهنام بردى/ د. نبهان حسون السعدون/ دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع– دمشق2012.3. الثريا، دراسات نقدية عن تجربة القاص هيثم بهنام بردى في كتابة القصة القصيرة جداً/ إعداد وتقديم: خالص ايشوع بربر/ مطبعة شفيق- بغداد 2014.واعتباراً من هذا اليوم الجمعة الموافق 27/ 3/ 2020 من كل أسبوع سأنشر البحوث والدراسات والقراءات النقدية التي تناولت تجربتي السردية في كتابة القصة القصيرة جداً من قبل الأساتذة والنقاد العراقيين والعرب وبحسب التسلسل الأبجدي.وبعد أن نشرت البحوث والدراسات النقدية الواردة في الكتابين (حبة الخردل) و (الثريا) لخالص ايشوع بربر، سأبدأ من السبت 14/ 11/ 2020 نشر فصول من كتاب (شعرية المكان في القصة القصيرة جداً- قراءة تحليلية في المجموعات القصصية لهيثم بهنام بردى) للناقد الدكتور نبهان حسون السعدون. وأنشر اليوم الفصل الأول من الكتابمحبتي واحترمي للقراء.***[ 37 ]شعرية المكان في القصة القصيرة جداًقراءة تحليلية في المجموعات القصصية (1989 – 2008) لهيثم بهنام بُردىالدكتور نبهان حسون السعدونأستاذ النقد الأدبي الحديث المساعدكلية التربية الأساسية/ جامعة الموصلالفصل الثالثشعرية تركيب المكان1 – المكان الأليف/ المكان المعادي 2 – المكان التاريخي/ المكان الآني3 – المكان المسرحي/ المكان الكونيمدخل: للمكان أبعاد نفسية فضلاً عن وظائفه الفنية وأبعاده الاجتماعية والتاريخية والعقدية التي ترتبط به ولا تفارقه حتى إننا نسترجع هذه السياقات والأبعاد عند استرجاعنا للمكان أو ما يرتبط به(1)وتتسع دلالة المكان بما يرتبط به من سياقات نفسية واجتماعية ومن ثم يصل إلى درجة النموذج التصويري(2)إذ يتشكل المكان وتتضح أبعاده من التأثير الاجتماعي والفكري فالواقع يبقى خارجاً ما لم تجر فيه أفكار ويضع فيها الإنسان معنىً جديداً لأبعاد ذلك المكان(3) لذا يتغلغل المكان عميقاً في الإنسان ليحفر مساراته في مستويات الذات المختلفة ليصبح جزءً صميمياً منها(4)وبما أن الكون يتمثل في مجموعة من الثنائيات التي تبدو متعارضة، ولكنها متكاملة في الوقت نفسه إذ لا يمكن أن يتم هذا التكامل إلا في التعارض، وتبنى الحياة على هذا الأساس(5) وعليه فالعلاقة المكانية أو العلاقات بالمكان تبرز في اللغة على شكل ثنائيات فالرحلة في مقابل الإقامة، والأعلى في مقابل الأدنى، والقصر مقابل البيت الطيني، والريف في مقابل المدينة(6) إذ تخضع العلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات المكان لإضفائها على المنظومات(7) . يتميز القاص هيثم بهنام بردى بتحقيق وحدتي المكان والزمن في النص وتأثيرهما على البعض ومن ثم التأثير على ما هو خارجهما (المتلقي). عبر “إيجاد صلة انفعالية به أو التوفر على سببية تنتظم داخل النص بهذا الخصوص بين الزمان والمكان والشخصية، إذ نجد ثمة علامة سببية تتيح حالة الإحساس والشعور بما يشكل حافزاً لحالة من الجدل”( إذ أن احتواء النص السردي على مرجعيات مكانية وان كانت مستلة من واقع منسي أو مهمل “إلا أن اهتمام القاص بهكذا فعل يميل إلى أن يكون جانباً غير اعتيادي أن واقعاً مكانياً مصنوعاً بحذاقة، سيجده القارئ في موقع البروز الذي يثير اهتمامه ويدفعه إلى المتابعة، لأنه يشكل المدخل النصي للكتابة السردية”(9) إذ نجح القاص في الاستخدام الأمثل للجو القصصي بوصفه وسيلة من وسائل الإيحاء والرمز، فضلاً على اعتماده عامل الدقة في توظيف جزيئات المكان توظيفاً فنياً يتواشج مع تغير الأحداث من القصة وتوظيف تفاصيله الدالة في خدمة الحدث القصصي وتعميق الإحساس بأعماق الشخصية وهي في المكان(10). 1 – المكان الأليف/ المكان المعادي قد تنسجم الشخصية مع المكان وقد لا تنسجم فإذا “حدث نوع من الانسجام فإنها تحيا فيه وتعيش في ألفة، وإذا لم يحدث فستكون الشخصية كارهة للمكان، ويخلق نوعاً من التناقض”(11) ويتولد من هاتين العلاقتين نمطان من المكان وتشكل في مجموعها الأمكنة الأليفة، والأمكنة المعادية، ويؤكد هذان النمطان الصلة التي تربط الإنسان بالمكان إذ تظهر الصلة عواطف الإنسان وانفعالاته وأحاسيسه فيؤثر كل منهما في الآخر في علاقة ألفة أو عداء(12)إذ “ثمة أمكنة لا يشعر الإنسان بألفة ما نحوها، بل يشعر بالعداء أو الكراهية، وهي أماكن قد يقيم فيها تحت ظرف إجباري كالمنافي والسجون والمعتقلات، أو الأماكن التي توحي بأنها مكامن للموت والطبيعة الخالية من البشر وأماكن القرية”(13). يمثل البيت مكاناً أليفاً لأنه جسد وروح وهو عالم الإنسان الأول(14) وهو “ركن في العالم انه كما قيل كوننا الأول، كون حقيقي قبل ما للكلمة من معنى”(15) ويعد البيت واحداً “من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام إنسانية، ويبدأ هذا الدمج وأساسه أحلام اليقظة وفي أحيان تنشط بعضها بعضاً ففي حياة الإنسان ينمي البيت عوامل المفاجأة ويخلق استمرارية، ولهذا فبدون البيت يصبح الإنسان كائناً مفتتاً”(16) فالبيت “تعبيرات مجازية عن الشخصية إذ أن بيت الإنسان امتداداً لنفسه فإذا وصفت البيت وصفت الشخصية”(17) وينشأ بذلك التأثير المتبادل بين الشخصية والمكان فلا شيء في البيت يعبر عن دلالة إلا إذا ارتبط بالإنسان الذي يعيش فيه إذ “إن كل حائط وكل قطعة أثاث في الدار هي بديل الشخصية”(18) وبذلك يمثل البيت “عالم الشخص الذاتي معه تتكشف خبايا نفسه وفيه يعبر عن مواقفه من الناس والأشياء فهو مكان انجلاء فردية الشخص”(19). فالمكان الأليف إذن هو “مكان المعيشة المقترنة بالدفء والشعور بأن ثمة حماية لهذا المكان من الخارج المعادي وتهديداته، ويمنح هذا المكان الفسحة للحلم والتذكر”(20) وهذا المكان يترك أثراً في ساكنيه كأن يكون مكان الطفولة الأولى ومكان الصبا والشباب، ومكان الذكريات وأحلام اليقظة”(21) . ومن أمثلة المكان الأليف: “الخطوات الأخيرة للوصول إلى القمة ثم ينحدر نحو القرية … تذكر الزوجة الواقفة وراء النفاذة ترشح السفح بنظرات زائفة فتملكه رغبة حامية في تسلق البقية… الخطوة الأخيرة حسناً ها أقف الآن في القمة، آه يا قريتي ها أني أغمر وجهي الأسيان في شعرك الليلي فدفئيني… لم يبقى سوى تسلق هذا الجبل ثم تنحدر نحو القرية”(22). تمثل القرية مكاناً للألفة للرجل ففيها يوجد بيته الذي يشعر تجاهه بالأمن والاطمئنان والراحة. إذ يتذكر زوجه وهي تستقبله ويبدو وجهها عبر النافذة إذ تتحمل الشخصية مصاعب السفر ومتاعبه ليصل بصديقه المريض الذي يحمله فوق كتفه إلى القرية، وبذلك يعبر هذا الرجل عن قمة الوفاء والتضحية والإيثار بالنفس، وربما يبدو المكان الأليف في نفس الشخصية في أعلى حدوده إذ يقول الرجل: (آه يا قريتي) ثم يتغزل الرجل بهذا المكان المحبب إلى نفسه إذ يجعل للقرية شعراً اسوداً فيطلب أن تدفئ هذه القرية وجهه الأسيان لا سيما في هذا الجو البارد وسط الثلج المكدس في الوادي السحيق وفوق الجبل. وكان يجتازه للوصول إلى بر الآمان لصديقه المريض بعد أن هجم الليل وأظلمت الطرق وبهذا يقدم القاص مشهده بلغة وصفية شعرية متميزة. ومن أمثلة المكان الأليف: “كنت أتنكب الأزقة الظليلة في طريق من السوق إلى البيت. كنت أفكر في شكل البيت الصغير الذي ابنيه لحسوني الجميل، وحين وصلت إلى فم الزقاق الذي يفضي إلى دارنا نقرني الحسون نقرات متتالية مؤلمة”(23). ويتكرر ذكر (البيت) في قصص هيثم بهنام بردى بوصفه مكاناً أليفاً تسعى إليه الشخصيات سريعاً بعد أداء مهامها إذ تتحمل الشخصية حرارة الجو اللاهب في السوق لشراء طير (الحسون) وما تلبث أن تعود إلى البيت فما كان منها إلا أن تقصد الأزقة الظليلة لتخفف عن نفسها الشعور بالحر الشديد بحثاً عن نسمة باردة في طريق العودة . وكم كانت الفرحة تغمر الشخصية عند وصولها إلى الزقاق الذي يقع فيه (الدار) وكان على طول الطريق يفكر في جعل حياة الطائر كحياة صاحبه بأن يصنع له بيتاً صغيراً يشعر فيه بالأمان، وبهذا توا شجت إلفة البيت في نفس الشخصية مع رسمها في نفس الطير عندما يرى بيته الصغير الذي سينفذه له صاحبه. وبهذا يبدو بشكل واضح مكانة البيت في نفس الشخصية إذ انه عالمها الخاص الذي تبدو فيه فرديتها، وتحمله ذكرياتها وأحلامها وآمالها. ومن أمثلة المكان الأليف: “دأبها ككل ليلة تطفئ المصباح فيصفد فضاء الحجرة ظلام صائل إلا من ضوء ينير اللوحة المعلقة على الحائط تتلمس طريقها بأصابع يديها تتمدد على السرير الحديدي القديم، وتعقد ذارعيها تحت رقبتها وتتملى اللوحة بعمق مستحضرة حلم كل ليلة”(24). ويعود البيت من جديد ليشكل مفصلاً من مفاصل ألفة الشخصية في قصص هيثم بهنام بردى إذ تستهوي الشخصية وسط غرفتها أن تكون في ظلام دامس من كل ليلة إلا بعض الضوء الذي ينير الشيء الذي تعلقت نفسها به إلا وهو (اللوحة) التي علقتها على الحائط، فعلى الرغم من أن الظلام يحيل المكان إلى موضع مخيف وموحش إلا أن هذه الحالة تسعد الشخصية إذ تتلمس طريقها نحو السرير، الذي تلقي مادة صنعه (الحديد/ وهيئة القديم) ظلالها على نفس الشخصية إذ ترتبط بهذا السرير الذي تجد فيه الراحة منذ الصغر وقد ألفت عليه بأن تعقد ذراعيها تحت الرقبة، ووقفت مستسلمة ذهنها ونظرها ورؤيتها نحو اللوحة. ولا تكتفِ بهذا الحد فقط إذ تستحضر في هذا المكان الأليف أحلامها وأمانيها وتطلعاتها حتى تسترخي جسمها وتخلد لنوم عميق إذ ترسل في نفسها ما تحبه وتهواه، فتنام هادئة آمنة مطمئنة تحلم بالسفينة التي تحملها عروساً ترسو على الساحل الرملي بعد أن تجتاز تيارات البحر المتعاقبة. ومن أمثلة المكان المعادي: “جردوني من ثيابي، بقيت بملابسي الداخلية، أمسكتني إحداهن من كتفي، وأتت أخريات من قدمي وألقييني على بلاط السجن”(25). يبدو السجن بوصفه عالماً مفارقاً للحرية مكاناً معادياً للشخصية إذ تتمظهر في تكوينه الإجبار على المكوث فيه، وتمثل الأقفال عاملاً تحجب به السجين عن العالم الرحب وتكون الحد الفاصل ما بين الخارج والداخل: الخارج بألفته، والداخل بالعداء والكره. ففي هذا المكان المظلم أُلقيت عبلة زوج المجاهد حسين صابر العواد بعد أن جردوها من ملابسها الخارجية، وألقوها على البلاط البارد وسط المكان المعادي بعد أن كانت تنعم في بيتها مع زوجها. ويلقي هذا المكان المعادي بظلاله على الشخصية التي كانت تحمل جنيناً في أحشائها، وبعد استمرارها في السجن كانت تسمع صوت التراتيل: أيا جيلي، أيا جيلي مسيح مات في المنفى دون تراتيل مسيح آخر آتٍ فمن يحميه يا جيلي ومن أمثلة المكان المعادي: “في زنزانة معتمة بالقدس ولد ثائر في ليلة باردة، وضعته عبلة ولم تجد مكاناً تضع فيه الوليد غير أرضية الزنزانة تحيط به الدماء في الزنزانة”(26). ويكمل القاص تركيبة المكان المعادي (السجن) عبر دخول السيدة عبلة فيه وسط هذه العتمة تحين ولادتها وسط الجو البارد، وبلاط السجن الرطب، وبهذا يعكس هذا المكان التأثر بالمثيولوجيا الدينية والموروث للإنسان الفلسطيني المضطهد متمثلة في هذه المرأة، التي تقاوم ظلام السجن، وما يبدد حزنها وألمها، مجي ولدها (ثائر) إلى الدنيا فاحتارت أين تضعه، فها هو يستقبل دنياه على أرضية الزنزانة وتكاد الدماء تحتضنه وهو ملقى على البلاط البارد فولادته تعلن عن رحيله في الوقت نفسه. فيتحول السجن إلى عذاب أبدي للشخصية، فقد دخلتها مكرهة، وفيه فقدت ولدها، ومن هنا يعكس المكان معالم الظلام والعزلة، ويوحي بالظلم الذي يقع على الشعب متجسداً بهذه المرأة التي تحدت الصعوبات على الرغم مما تحملته من القسوة وفقد وليدها الذي رحل بسبب ولادته في هذا المكان الرطب في ليلة باردة. ومن أمثلة المكان المعادي: “الشارع طويل، طويل، والشمس جمرة متقدة، والسراب بحر هادر، والجحش لا يزال يجهل معنى النوم الطويل للأم، وبين فترة وأخرى تمرق سيارات قرب الجثة، ولا أحد ولا أحد، حتى يفكر في معنى هذا”(27). يمثل الشارع في هذا النص القصصي مكاناً كرهته الشخصية، لمسالتين الأولى الشعور بالحر الشديد وسط اتقاد الشمس التي أصبحت جمرة من نار والثانية قسوة الألم الذي تعانيه الشخصية من نفسها من موت أم الجحش، وهو أمامها لا يعلم شيئا عنها أو عدم اهتمام أي من الناس المارين بسيارتهم بهذا الموقف. فعلى الرغم من انفتاح الشارع الطويل المطلي بالإسفلت الذي يوحي بالراحة في سير السيارة للوصول إلى المبتغى إلا انه تحول إلى العداء بسبب هذين المسالتين. لذا يعرض هذا المكان عن طريق مشهد قصصي يتم التركيز فيه على الحدث وضغطه في اتجاه واحد مما يوحي بالواقعية والصدق في التعبير عبر لفت انتباه القارئ إلى القيمة العالية في الشعور بالمسؤولية تجاه الموقف الذي تعرضت له الشخصية من مشاهدة الرأس المهشم للحيوان اثر سيارة دهسته ولم يلتفت صاحبها لما حدث وتركه. 2 – المكان التاريخي/ المكان الآني إن للمكان شأنه شأن أي عنصر من عناصر العمل الروائي ليس بناءً خارجياً مرئياً ولا حيزاً محدد المساحة ولا تركيباً من عدة غرف واسعة بل هو يحيا من فعل الغير الذي يحوي تاريخاً ما(28) فالمكان التاريخي “يستحضر لارتباطه بعهد معنى أو لكونه علاقة في سياق الزمن”(29) إذ لا يمكن أن ينفصل المكان عن الزمان بأي شكل من الأشكال وانه لا ينفصل عن الحركة(30). والمكان التاريخي ما تفوح منه رائحة القرون والأجيال السالفة مشيراً بخصوصيته إلى الجذور التاريخية المرتبة، ويحمل هذا المكان تاريخاً للتحولات الاجتماعية التي تطرأ على المجتمع(31)وان الارتباط بمكان هو “الارتباط بقضيته هذا المكان وليس مجرد ارتباط عاطفي أو جغرافي”(32). أما المكان الآني فهو الذي تحيا فيه الشخصية في راهنها الذي تتحدث فيه عن الأحداث والمجريات(33) ومن أمثلة المكان التاريخي: “وفي بيت لحم بالقدس ولد المسيح في ليلة باردة ، وضعته مريم ولم تجد مكاناً تضع فيه الوليد غير المعلف يحيط به التين اليابس والأغصان في بيت لحم ولد المسيح ورنمت الملائكة تسبح للمخلص الموعود”(34). “في زنزانة معتمة بالقدس ولد ثائر في ليلة باردة…” (35). يستحضر القاص المكان التاريخي (القدس) ليوظفه في سياق أحداث قصته التي تتناص مع أحداث ولادة المسيح في (بيت لحم). وبهذا يستحضر القاص مكانين ليدل بهما على القدس ليوازن في القصة بين ولادتين (المسيح) و (ثائر) فإذا كان المسيح قد رنمت الملائكة له فرحة بولادته، فهي تسبح بصوت جنائزي لتعلن رحيل ثائر على أرض الزنزانة يوحي بالعذاب الذي يعانيه الشعب الفلسطيني على مر السنين من أذى اليهود. وإذا كان القاص يستحضر القدس تلك المدينة التاريخية القديمة التي تعبر عن أصول الدين والإرث الحضاري الذي يبدو عبر (القبة) التي لا زالت ترمز للمقدس الذي توطد في النفوس بإيمانها برسالة المسيح ()، ولكي يدلنا القاص على البعد العقدي للمكان يشير الى الشخصيات الواقعية (المسيح) وأمه (مريم) تلك المرأة التي تحملت الصعاب وواجهت القوم لطاعة الله تعالى واحتسابه بأن يجعلها تحبل من دون رجل بقدرته وإرادته النافذة في الكون ومخلوقاته، ففي بيت لحم تضع هذه (الأم) رمز القدسية والعفاف والطهر وليدها وسط مكان موحش لجأت إليه خوفاً على سمعتها وإيذائها من القوم احتساباً لله تعالى لتتم مشيئته الإلهية، فما كان منها إلا إن تضع المسيح () (المولود الجديد) الذي أطل على الحياة في المعلف بحيث كان التين اليابس والأغصان بدل الفراش والوسادة ليمنح الدفء لإدامة حياته، فإذا كان المخلص الموعود به في المستقبل قد جاء إلى الدنيا فما كان من الملائكة إلا أن ترنم وتسبح بهذا المولود الذي يتحمل خطايا البشر ويخلصهم من الآثام والشر في نفوسهم، ويجعل قلوبهم تتوق إلى الإيمان في أسمى صوره، فإذا كان المسيح () قد وضع في المعلف فإن (ثائر) -المولود الجديد ابن المجاهد الفلسطيني ولد في مكان معتم أيضاً وسط زج أمه الحامل به في عتمات السجن- قد وضعته أمه عبلة، على أرضية السجن، واتفقت ولادة الاثنين في ليلة باردة شتائية قارصة فإذا مات ثائر فهناك من سيسير على خطاه في تجديد الجهاد الفلسطيني، فإن المسيح من قبله الذي بقى على قيد الحياة، وقد مات من جديد ليحيا الناس بمبادئه وتعاليمه. ويستلهموا من ذلك في توثيق عرى الإيمان في نفوسهم… وبهذا فقد قدم القاص رؤاه الفكرية بمبادئ دين المسيح() عبر استحضار الأمكنة التاريخية التي تشير إلى القدس فجاء توظيفها لتقديم مأساة الشعب الفلسطيني في ظل الظروف الحالية الصعبة من الاغتيالات والقتل والنفي وسلب الحريات. وهم يتحملون مرارة الوحشة في محل ولادتهم وذكرياتهم وأحلامهم وأمانيهم، بعمق إيمانهم الراسخ بغض النظر عن اتجاهاتهم الدينية من مسلمين ومسيحيين، تجمعهم الإرادة الأبية والكلمة الواحدة ليصلوا إلى شاطئ الأمان، ويرجعوا حلمهم المرتقب في عودة الأرض لأصحابها وتطهير أراضيهم من أدناس الغرباء الذين لم يفهموا تعاليم الله تعالى عبر دياناته السماوية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام مثلما فهمها الشعب الفلسطيني. ومن أمثلة المكان الآني: “ولكن النمر بقي في مكانه جامداً لا يأكل ولا يشرب، ينظر إلى سماء أفريقيا بحسرة، رويداً رويداً” (36) . لقد قامت أحداث القصة في قاعة العرض المسرحي فيما يتعلق بشخصية الحيوان (النمر) في داخل القفص بعد أن اصطاده الرجل، وقدمه هدية للحاكم. ولكن بما أن النمر يعتز بموطنه الأفريقي فقد تعامل مع الحدث بسلبية تامة إذ تحول إلى جماد لا يتحرك في القفص، ورفض ما يديم حياته من الأكل والشرب، فهو لا يريد الحياة وسط هذا العالم الضيق الغريب ويشتاق ويحن إلى موطنه الأصلي في ذاكرته ويتحسر على تلك الأيام، لذا فقد تحول المكان الأصلي للأحداث إلى مكان وقتي في نظر الشخصية، ألا وهو (أفريقيا) ولكن ما لبث أن تعرض النمر للموت في القفص من تركه المصادر الأساسية للعيش، وبهذا عادت الأحداث إلى لقاء من جديد بعد انتهاء العرض المسرحي. ويحمل القاص هذا المكان الهموم السياسية ويوحي بالشعوب الأفريقية المضطهدة عبر شخصية النمر الذي كان يعيش العزلة التامة بعيداً عن موطنه الأليف الذي عاش في ربوعه. ومن أمثلة المكان الآني: “بيوت، دكاكين، أزقة، حبال غسيل في الأسطح، وقد انفرشت على امتدادهما قطع الملابس البليلة… حيث تترامى المساحة الفسيحة المكتظة بالرافعات والحادلات”(37) . يعرض القاص المكان عبر الغرفة التي توحي بعزلة الشخصية التي تعيش فيها عن طريق مشهد قصصي من أحداث الواقع بما يعبر عن الانطواء المرضي الذي تعاني منه الشخصية فيتحول مكان الحدث من الغرفة إلى أمكنة أخرى أنية عبر النظر من النافذة إلى معالم عديدة تعبر عن تهدئة نفس الشخصية والسبب للبدء بترك العزلة والانطلاق نحو العالم الخارجي ولا سيما الحياة التي تعبر عنها الأمكنة المنظور إليها من البيوت والدكاكين والأزقة والأسطح والساحة، وما يثير انتباه الشخصية الممارسة الجنسية بين الحمامتين، وهذا الموقف الآني التي شاهدتها الشخصية لم توظفها في الانتقال من حالة العزلة، فما لبثت أن عادت الأحداث من جديد إلى الغرفة المعزولة ذات الأسياخ الحديدية القاحلة في أعلى البناية الشاهقة، فالعزلة تبدو في وجه الشخصية التي يميل وجهها إلى حنطي اللون. ومن أمثلة المكان الآني: “وانسل نحو الزقاق المفضي إلى سيقان الجسر الحديدي تسلق رصيفه المزفت، أقدامه العتيقة تسحل زاحفة نحو القمة”(38). تبدأ أحداث القصة على الرصيف عبر شخصية ألكتبي الشائب الذي يسعى لكي يلملم كتبه ليعود إلى الزقاق بعد رحلة مضنية في انتظار الذي يشتري كتب شتاينبك وديستوفسكي وبارت وفوكو… فما لبث أن جمعها في كيس يحمله على ظهره. ثم تعود الأحداث إلى الرصيف من جديد في شارع المتنبي إذ عمل الكيس على رص كتبه على شكل عمارات وشوارع وبيوت ليحصل منها الحياة في عالم العلم والمعرفة. لذا يكون الزقاق بحسب أحداث القصة مكاناً آنياً تسعى إليه الشخصية بعد ترك المكان الأساس وما لبثت لتعود إليه. ويعرض هذا المكان اصطدام الشخصية بقسوة الواقع ومرارته التي تبدو عبر تملي الشخصية لعنوانات الكتب، والعمل على دخول مدينته التي رتبها في الكتب محاولاً العيش في هذا (اليوتوبيا) الخاصة به. على رصيف شارع المتنبي ليعلن عن البعد الميتافيزيقي للمكان. 3 – المكان المسرحي/ المكان الكوني للمكان أبعاد هندسية محددة، ويتحدد المكان المسرحي بالإبعاد ولكنه يوحي بالأحداث(39) إذ انه “في المساحة المغلقة وحدها يمكن للصراع أن ينشأ وينمو وينتهي في حتمية”(40) ولكي يتحدد المكان المسرحي لا بد من أن ترسم المشاهد ويوصف الواقع الذي تدور فيه الأحداث بحيث تصبح ستارة من ستائر المسرح الخلفية إذ تقدم للمشاهد أو القارئ صورة ملموسة الأطراف يسهل إدراكها واستيعابها وتلخص هذه الصورة السريعة الموجزة المكان الذي تتحرك فيه الأحداث وتجري فيه الأفعال الإنسانية(41)وعلى ذلك فالمكان المسرحي “مكان الاستكشاف يختبر إمكانياته وحدوده، فهو يستكشف أبعاده ويستخدم الاتجاه الأفقي كما يستخدم العمق إن وجد”(42) وبهذا يعتمد المكان في المسرح على الوحدة الأساسية للمشهد ويكون معقداً إلى حد ما “لاشتماله على مكان محسوس تتحرك فيه الشخصيات فإنه مكان يضم بين جوانبه كل العلاقات الحقيقية الضمنية بين هذه الشخصيات”(43) أما المكان الكوني فهو الذي “يظهر الكون من الشمس والقمر والنجوم والكواكب، والطبيعة من المياه والنبات والجبال”(44). ومن أمثلة المكان المسرحي : “قال ذلك دون أن ينظر إليه، وبين الفينة وأختها ينظر عبر الزجاج إلى واجهة السينما المزدانة بالنيون ثم يمسك القلم ويكتب”(45). يبدو المكان المسرحي الذي ترمز إليه نظرة الرجل غريب الأطوار بعد دخوله المقهى إلى (السينما) فالقاص يذكر المكان ويترك للقارئ تخيله الأحداث التي تجري فيه بفعل الشخصيات، ولكي تعطي تأملاً للقارئ بحدوث الفعل في داخل هذا المكان يظهر السينما (مزدانة بالنيون) فما دام المقهى في انتظار عرض الفيلم التي عرضت بعض لقطاتها على الواجهة قبل الدخول للقاعة المظلمة وبدا العرض السينمائي ويوحي هذا المكان بتكثيف الحدث واعتماد العادي منه لتصوير مشهد ساكن عبر اللغة لكن يموج بالحركة بفعل الشخصيات والأحداث. ومن أمثلة المكان المسرحي: “فانتبذ مقدمة السفينة ونظر إلى الشراع والمجاديف والسجن”(46) . يتجسد المكان المسرحي في القصة عبر استكشاف عيني الشخصية للمنظر المعروض أمامها: مقدمة السفينة والشراع والمجاديف والسجن، فهو بذلك يوحي بالأحداث والشخصيات على ظهر السفينة في غرفها ومكان تناول الطعام، وجلوس بعضهم على المقدمة في استيعاب المنظر الجميل للبحر وأمواجه ولفح نسمات هوائه الباردة، يتواشج المكان المسرحي بالأحداث التي تجري فيه مع فعل الشخصية التي أطرت له عبر المنظر بالعزف والإنشاد على القيثارة. إذا كانت أنفاس راكبي السفينة تتمازج مع نسمات الهواء العذب، فان كلمات المنشد تسافر عبر الموج والأثير. ومن أمثلة المكان الكوني: “في هدأة الهجيع الأول من الليل استيقظ الكهل من نومه وأشعل عود ثقاب ونظر إلى الجسد الهرم الممد بجانبه … ومن النافذة المقابلة للسرير تسللت خيوط نقية لفجر جديد معتم… وبكر للحظات تعالى شخيره يغمر سماء الغرفة”(47). يبدو المكان الكوني عبر الظواهر الكونية (الليل/ الفجر) وأثرها في إلقاء ظلالها على الشخصية بما ترمز للشيخوخة وقسوة الزمن، فهذا المكان بوجود الشخصية في أجوائه يعبر عن بعد سيمولوجي للإيحاء بالعزلة التامة لولا فسحة الأمل المتمثلة باختبار الذكريات الغابرة عن طريق الإيحاء السريع الذي يتمثل باللغة المكثفة في التعبير عن المكان، ويتواشج انتهاء القصة مع البدء بالمكان الكوني للانتهاء بما يقابل كونية المكان الخاص (الغرفة) عبر شخير الشيخ واستلامه للنوم في سماء الغرفة لذا يركز القاص على تركيز الحدث في مشهد قصصي يعبر عن الواقع المعيش. ومن أمثلة المكان الكوني: “نظر بغضب إلى الشمس التي كانت تلسع الكون الواسعة، بوهجها اللائب صرخ باستجداء: ماء… تكاتفت كتل الغيوم حوله واستحالت إلى بحر هائج فيما فاحت رائحة الماء تنفذ إلى خياشيمه صرخ باستجداء إني اغرق”(48). ويتجسد من جديد المكان الكوني في قصص بردى عبر الظواهر الكونية (الشمس، الغيوم) وفيما تلقيه من آثار سلبية في نفس الشخصية من حرارة الشمس اللاسعة المتوهجة فضلاً عن الغيوم الداكنة التي توحي بتحول الطقس من الضوء إلى بعض العتمة بما تلقيه الغيوم في لونها، لتتحول إلى بحر هائل من الماء الذي تتلمس الشخصية رائحته. ومن أمثلة المكان الكوني: كانت الشمس تحث خطاها نحو أقصى الشرق ترنو بحزن نحو الأرض والأشجار والدبابات والأجساد المحروقة بوعثاء التعب والترقب والخوف” (49). تميز هذا النص القصصي بتداخل الأمكنة من ظواهر الكون (الشمس/ الشرق) وظواهر الطبيعة: (الأرض/ الأشجار) عبر حسم المنازلة بين الجيشين بعد سقوط الأجساد في أرض المعركة، ولكن ما لبثت احد الجيشين الاستمرار في القتال لحسم الموقف له في النهاية ويعبر هذا المكان عما في نفس الشخصيات ليبعث فيهم قوة العزيمة والإرادة لاستكمال المعركة. هوامش الفصل الثالث :(1) ينظر: جماليات المكان في مسرح صلاح عبد الصبور، مدحت الجيار، مجلة ألف، العدد 6 لسنة 1986: 28. الحوار في قصص علي الفهادي، د. نبهان حسون السعدون، مجلة دراسات موصلية، مركز دراسات الموصل، جامعة الموصل، العدد 26 لسنة 2009: 47.(2) ينظر: الموصل فضاءً روائياً، د. إبراهيم جنداري، مجلة الأقلام، العددان 7 و 8 لسنة 1992: 58.(3) ينظر: المكان في الرواية، ياسين النصير، مجلة آفاق عربية، العدد 8 لسنة 1980: 78.(4) شعرية المكان في الرواية الجديدة: 60.(5) ينظر: قراءات في التجربة الروائية، سمر روحي الفيصل: 105.(6) ينظر: جماليات التشكيل الروائي: 231.(7) ينظر: نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية: د. نبيلة إبراهيم: 58.( القصة القصيرة جداً: فن الاختزال والتكثيف، جاسم عاصي، ضمن كتاب (حبة الخردل): 52-53.(9) القصة القصيرة جداً فنطازيا، حميد حسن جعفر، ضمن كتاب (حبة الخردل): 57.(10) عزلة أنكيدو بين قوة الإيجاز وفاعلية الإيحاء والتكثيف، وعد الله إيليا، ضمن كتاب (حبة الخردل): 158.(11) شخصيات قصة يوسف في القرآن الكريم، نبهان حسون السعدون، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة الموصل، 2003: 249. (12) ينظر: المكان في قصص علي الفهادي، د. نبهان حسون السعدون، مجلة دراسات موصلية، مركز دراسات الموصل، جامعة الموصل، العدد 29 لسنة 2010: 12.(13) جماليات المكان، جاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا: 45.(14) ينظر: المصدر نفسه: 45.(15) المصدر نفسه: 43.(16) المصدر نفسه: 44 – 45.(17) نظرية الأدب، رينيه ويلك وأوستن دارين، ترجمة: محيي الدين صبحي: 288.(18) بنية الشكل الروائي: 43.(19) المكان والزمان في يوميات نائب من الأرياف، ليلى درغوث، مجلة الحياة الثقافية، العدد 58 لسنة 1990: 47. وينظر: الشخصية في قصص علي الفهادي، د. نبهان حسون السعدون، مجلة دراسات موصلية، مركز دراسات الموصل، جامعة الموصل، العدد 30 لسنة 2010: 16.(20) الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا: 237.(21) ينظر: البناء الفني في الرواية العربية في العراق (الوصف وبناء المكان): 28.(22) الثلج: 17 – 18.(23) حين: 113.(24) الزوبعة: 167.(25) ولادة: 36.(26) ولادة: 38.(27) السيناريو: 69.(28) ينظر: إشكالية المكان في النص الأدبي: 8.(29) حركية الإبداع، د. خالدة سعيد: 30 .(30) ينظر: تيارات فلسفية معاصرة: 293.(31) ينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا: 256.(32) الرواية والواقع، محمد كامل الخطيب: 40.(33) ينظر: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا: 258.(34) ولادة: 36.(35) ولادة: 38.(36) نمر أفريقيا: 43.(37) حب مع وقف التنفيذ: 61.(38) يوتوبيا: 96.(39) ينظر: شخصيات قصة يوسف –عليه السلام- في القرآن الكريم، نبهان حسون السعدون، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة الموصل، 2003: 251.(40) بناء الرواية، أدوين موير، ترجمة: إبراهيم الصيرفي: 56.(41) ينظر: فن القصة، د. محمد يوسف نجم: 18.(42) مفهوم المكان في المسرح المعاصر، سامية أحمد اسعد، مجلة عالم الفكر ، المجلد 15، العدد 4 لسنة 1985: 32.(43) الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم جبرا: 261.(44) الشكل القصصي في القرآن الكريم، نبهان حسون السعدون، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة الموصل، 1999. الزمن في قصص علي الفهادي، د. نبهان حسون السعدون، مجلة دراسات موصلية، مركز دراسات الموصل، جامعة الموصل، العدد 28 لسنة 2010: 22.(45) العاصفة: 24.(46) الشاعر: 188.(47) ذكريات: 21.(48) ألفة: 47.(49) الحسم: 282.