قراءة في كتاب (موشحات سليمان اولى الأناشيد السريانية) تأليف الأب الدكتور أفرام الدومنيكي – قراءة هيثم بهنام بردى
أستراليا/ ملبورن
بطباعة أنيقة وغلاف معبّر يمثل مخطوطة سريانية من القرن الخامس وبـ (250) صفحة من القطع المتوسطة. ومن مطابع الكريم الحديثة في جونيه بلبنان أصدر الأب الدكتور أفرام الدومنيكي كتابه الجديد الموسوم (موشحات سليمان أولى الأناشيد السريانية) وقد استهله المؤلف بإهداء جميل يمثل صدق انتماءه إلى العراق، مهد الحضارات ومنبع الثقافات والعلوم، إلى أرض ما بين النهرين بكل ما تحبل به من أجنة التجدد والحيوية والنضارة والسرمدية،
“كنت استعين دائماً بلغتي الأم السريانية المحكية والتي نطلق عليها في العراق، السورث، لأتمكن من فهم تلك المعاني وألمّ بالمقصود” – المؤلف
ومن ثم يتحدث الأب يوحنا الخوند في تقديمه للكتاب قائلاً: [ قرأت بحث المؤلف مرة واثنتين، فخيل اليّ إني لم أفهم منه شيئاً وقرأت نص الموشحات مرة واحدة فادركت حالاً شدة ما عاناه المؤلف في بحثه العنيد، إذ رأيت البحث والنص عالمين مختلفين، وأدهشني المؤلف وهو يحاول أن يخضع نصاً شعرياً نبوياً حراً لنوع من البحث والتحليل شبه مستحيل، أشبه بتربيع الدائرة ]. ثم ينهي به الاستنتاج إلى أن [هذا الكتاب هو اختبار قربى عميقة، يحس بها المؤلف في روحه تشدها إلى روح كاتب الموشحات شداً آسراً، فيتعارف الروحان على مسافة ثمانية عشر قرناً، وكلاهما مواطنان عراقيان (من بين النهرين) عريقان ]. وفي المقدمة التي أوردها مؤلف الكتاب: [ أما المخطوطة السريانية، التي حملت إلينا هذا الكنز فهي رديئة الخط، وصعبة القراءة لعدم وجود الحركات اللغوية في النص، مما سبب إلتباساً في الكشف عن كل محتواها، فلإدراك الصور الشعرية التي يلجأ اليها الشاعر في إبلاغ معانيه، كنت استعين دائماً بلغتي الأم السريانية المحكية والتي نطلق عليها في العراق، السورث، لأتمكن من فهم تلك المعاني وألمّ بالمقصود، والاستعانة بلغتي المحكية أضفى على ترجمتي، غنى واقتراباً من فكر الشاعر، وقلما تتوفر هذه الفرصة للذين يقومون بأبحاث مثيلة، ولن يخامرني الزهو إذا قلت أن الذين قرأوا نص ترجمتي إلى الفرنسية، قد أعجبوا بهذا الإتكاء على لغتي الأم وأدركوا فائدة استعانتي بها ]. يتوزع الكتاب على ثلاثة فصول، الثالث منه ترجمة ضافية للموشحات الأثنين والأربعين إلى اللغة العربية مع ثبت للموشحات باللغة السريانية في نهاية الكتاب، أما الأول والثاني فيحاولان استشراف أصول هذه الموشحات وهوية مؤلفها والبيئة التي عاش فيها والمدرسة التي انتمى إليها، والفكر اللاهوتي الذي يستوطن حنايا الموشحات، اضافة إلى محاولة دراسة واستجلاء خبايا هذا البوح الأدبي المدهش بصياغته الرصينة الزاخرة بهذا العمق الصوفي الثر. ففي الفصل الأول الموسوم بـ (الكاتب وبيئته الفكرية) والذي يتفرع إلى عناوين فرعية هي (النص السرياني وطبيعته/ أصل الموشحات/ تاريخ كتابة الموشحات/ لغة الموشحات/ تصنيف الموشحات/ الشعر والنبوءة) يبحر بنا الأب الدكتور أفرام الدومنيكي، مؤلف الكتاب، عبر رؤيته وفهمه للموشحات استناداً إلى المخطوطات والدراسات التي كتبت عنها والتي حاولت من جانبها، كل من مفهومه الخاص، اماطة اللثام عن تفاصيل هذه المخطوطات، ويذهب بنا المؤلف في رحلة مضنية دؤوبة تحليلية، وهو يناقش ويحاجج ويؤيد ويدحض ويورد البراهين والاستنتاجات التي عززت قناعته الشخصية كمؤلف ودارس أمين حيادي لمعنى الموشحات من ان: هذه الموشحات سريانية الأصل وهي من أقدم النتاجات السريانية، لا بل هي من أولى الكتابات السريانية، وأن مؤلفها شخص واحد، وأنها كتبت في القرن الأول الميلادي، وأنها من بيئة سريانية ومن مناخ كنيسة ما بين النهرين، وأن ما يعزز قدمها الساحق لغتها السريانية الغربية، وأنها كتبت لكي ترتل على شكل مزامير، وأن واضعها تلميذ أمين لمدرسة يوحنا. والفصل الثاني الموسوم بـ (الموشحات وكتابات يوحنا) والذي يتمحور حول (البيئة المشتركة للموشحات والتقليد اليوحناوي/ المواضيع المشتركة بين الموشحات والكتابات اليوحناوية) فإن المؤلف يبذل جهداً واضحاً مستعيناً بكل خزينه المعرفي واللاهوتي كدارس للكتاب المقدس، في الربط بين هذه الموشحات السريانية وعلاقتها بيوحنا ومدرسته إبان القرن الأول الميلادي، ليتوصل في نهاية رحلته إلى أن: نستطيع أن نميز من بينها ثلاثة تيارات مختلفة: – تأثر الموشحات بيوحنا. – تأثير يوحنا بالموشحات. – أن يكون كل من يوحنا والموشحات منحدرين من ذات البيئة ومن الجماعة نفسها. وفي ترجمته للأناشيد أشار المؤلف إلى [ لقد سعينا في الحفاظ على الروح الشعرية التي يمتلكها كاتب الموشحات، وفي نقلها إلى العربية، رغم الصعوبات التي واجهتنا في قراءة نص المخطوطات التي اعتمدنا عليها في دراستنا، لقد سعينا وكأننا مؤتمنين على وديعة، نسلمها لأبنائنا: هذه الموشحات هي كنز ثمين، كيف لا؟ وهي بالنسبة إلينا، أولى الأناشيد التي كتبت بالسريانية]. وفي تقديري كقارئ متواضع للنصوص، تعتبر بحق من أجمل النصوص الشعرية التي وفدت إلينا من عمق الماضي الزاهر لحضارة وادي الرافدين ولشاعر مجهول الاسم والجسم، معلوم الفكر والقريحة والموهبة وتعتبر، بحق، من أروع ما قيل شعراً، وقبل مار أفرام السرياني بقرنين على أقل تقدير، ونحن هنا لسنا في باب المفاضلة والترجيح، بيد أن هذه الموشحات هي فعلاً درر شعرية.. ولنقرأ معاً الموشحة الثالثة: 1. [حب الرب] أتشح 2. وجوارحي عنده، وأنا مشغوفة به وأحبه 3. لم اكن أعرف كيف أُحب الرب، لو لم يحبني 4. من يقدر أن يعرف الحب، غير المحبوب 5. أحب الحبيب وتحبه نفسي وحيث يكون رضاه، أكون أنا أيضاً. 6. ولن أكون غريباً، إذ لا جفاء عند الرب العلي الرحيم 7. ذبت لأصبح حبيباً للحبيب، لكي أحب ذلك الأبن، فأصير ابناً. 8. من يلحق اللا مائت، هو أيضاً لا يذوق الموت. 9. من يُسر بالحياة ينال الحياة. 10. هذه هي روح الرب الصادقة تعلم الناس ليعرفوا طرقه. 11. افهموا، واعرفوا، وكونوا يقظين. هليلويا يحق للأب الفاضل الدكتور أفرام الدومنيكي، مؤلف هذا الكتاب أن يفخر بأنه قدم للمكتبة العربية بحثاً مهماً سيجد حتماً مكانه اللائق في ذاكرة القارئ العادي والنخبوي والمتخصص. فمرحى لجهده الدؤوب والرائع. ***