ترميم الذات القومية – ج4
جدلية الفرد والجماعة.. بين الحاجة إلى التغيير وضرورات الاستمرار
“الجزء الرابع والأخير”
جورج هسدو
بعد أن اقتنعنا أو على الأقل عرفنا أن لا خيار أمامنا لتحقيق ذاتنا القومية ونيل حقوقنا السياسية سوى أن نكون متفقين وموحدين، وبعد أن تطرقنا إلى المسائل الجوهرية التي من مصلحتنا الاتفاق عليها يأتي السؤال الأخطر والأهم، كيف نتوحد؟، نعم إن الإجابة على هذا السؤال أو بعبارة أدق القبول به تتطلب التحلي بالشجاعة وإبداء المرونة لتقبل الاختلاف ونبذ الخلاف.. فأولاً علينا معرفة نقاط القوة والضعف لدى شعبنا كمجموعة عرقية قبل أن يكون مكون ديني، والتي من شأنها أن تفتح أعيننا على ما لدينا وما يمكن أن نحققه مقابل ما نفتقده وما لا يمكن لنا نيله، فإذا عرف الإنسان نفسه عرف أين يقف وبالتالي سيعرف ما المطلوب منه لإنجاز الأفضل.. فنحن كأقلية بشرية ذات خصائص عرقية بارزة إضافة إلى خصوصيتنا الدينية المتباينة عن ديانة شعوب الأغلبية المتعايشة معنا، علينا أن نعترف بصغر حجمنا وضعف أدواتنا في مواجهة الآخرين، لكن أيضاً علينا الإيمان بأصالتنا وعمقنا التاريخي الذي نتميز به عن باقي الأمم.. وإذا كان لزاماً علينا التأني وحتى التراجع في وقت الصراعات العددية الآنية وغير المتكافئة، فأنه علينا التحصن والثبات عند التنازع على حقنا في المواطنة الكاملة وعدم القبول بالتفريط بمصلحتنا العامة من خلال ابتكار طروحات ووجهات نظر يكون من الصعب رفضها من الأطراف المواجهة أو المعارضة.. فعندما نتخلى عن حقنا في المقاعد البرلمانية وننسحب من المنافسة النيابية فهذا لن يعني أننا ضعفاء أو جبناء، بل وفي ظل المصادرة المستمرة لخياراتنا من قبل أحزاب السلطة فإن قرارنا سيكون بمثابة رفض للغبن والحيف وانتفاضة على واقع إدارة ملفاتنا بالوكالة من الآخرين.. وعندما نصر على احترام حق شعبنا في تقرير مصيره واختياره للشكل الإداري والنظام السياسي لمناطق تواجده (حاله حال باقي الأطياف العراقية) ونكون مستعدين للتصدي لأسوأ احتمالات المواجهة فأننا لا نكون متهورين أو أغبياء، بل على العكس إن ذلك يخرجنا من خانة المسايرين والمستغفلين.
برأيي أن تقسيم وحدة شعبنا القومية هي بسبب المجموعات أكثر من الأفراد رغم تصرفات بعض الأفراد المسيئة، فعندما تهمل مجموعة محددة خصوصيات شعبنا وتزدري إرث الأجداد وتتندر على تاريخه، فأنها تجبر باقي المجموعات على التعامل معها كتهديد وعنصر خطر يجب مواجهته والتخلص من أفكاره وممارساته الهدامة.. وعندما تشجع مجموعة ما على تبني ثقافة وهوية أخرى مغايرة ومعادية لهوية وثقافة شعبنا وتعمل على تقويض وإفشال مشاريعنا القومية وطروحاتنا السياسية، فأنها تسحق أي احتمالية للتقارب أو التعامل مع المجموعات الأخرى وتصعد من حالة اللااتفاق.. أما عندما تتحصن مجموعة ما خلف عنوان فرعي وتصر على تسويقه كهوية جامعة وتعتبر المجموعات الأخرى توابع وملحقات، فأنها ستدفع ببقية المجموعات للتمسك بعنوانها الفرعي وكنيتها الخاصة رافضة أي محاولة لتوحيد الصفوف والاعتراف بالمشتركات.. وهو ما يمكن ملاحظته في سياسة الكثير من المؤسسات والمنظمات والأحزاب الكلدانية السريانية الأشورية، خصوصاً تلك المتأسسة على اعتبارات طائفية وخلفيات مشبوهة وعن ردود أفعال غير مدروسة، حيث يتم استغلال مثل هكذا تشكيلات لإبقاء وزيادة الهوة بين أطياف شعبنا من قبل جهات خارجية من مصلحتها بقائنا ضعفاء ومتفرقين.
الخلاصة
مما سبق نتوصل إلى نتيجة مفادها أن شعبنا اليوم أمام خيارين أيسرهما صعباً، فإما أن نبقى مشتتين وهو ما سيصل بنا إلى الفناء والزوال أو أن نتوحد ونحاول تجميع ذاتناق المشتركة وزيادة نقاط القوة لدينا كأفراد وكمجموعات لمواجهة القادم من التحديات التي من الوارد جداً استمرارها في ظل الوضع الراهن.. فالخيار الأول لا يحتاج إلى أي تعليق إضافي أو استرسال في الشرح والمقاربة، أما الخيار الثاني فأنه سيأخذنا إلى معادلة أخرى أصعب وهي، ما هي الخطوات العملية التي علينا اتخاذها للوصول إلى حالة الوحدة؟، بل بماذا يمكن أن نبدأ لتذليل التباعد الموجود بيننا؟.. إن أولى أولوياتنا يجب أن تركز على محاربة (العقلية الاستعراضية) الموجودة لدى عناويننا السياسية وغير السياسية وتبني (نهج عقلاني) في مواجهة كل الممارسات التخريبية المروجة لتقسيم وحدة شعبنا، والأهم العمل على إصلاح تلك المجاميع الهدامة والمؤسسات المعرقلة لمساعي ترميم ذات شعبنا القومية.. بالتأكيد لا يمكن تقويم المعوج بسهولة ولا إصلاح الفاسد بكبسة زر خاصة عندما تكون عملية تكوين الشخصية (المعوجة والفاسدة) قد مرت بمراحل عديدة وسنوات طوال من التأليب والكراهية، وهو ما يتطلب من أصحاب العقليات الناضجة والوحدوية بذل جهود جبارة واتخاذ مواقف حازمة بعيداً عن المواربة والمجاملات.
ربما حان الوقت لأن تتفق مؤسساتنا القومية والسياسية على (ورقة تعاون) تلزمها بالكف عن إلحاق المزيد من الضرر بشعبنا ووحدة مصيره ومستقبل قضيته القومية في الوطن، وفي حال نجاح مثل تلك الورقة يمكن الانتقال لخطوة أكبر، كالاتفاق على (وثيقة عمل مشترك) بين الجميع.. ومن الوارد بل المطلوب التزام حتى كنائس شعبنا بمثل تلك الوثيقة، خاصة وأنها أصبحت جزءا لابل الجزء الأصعب من المشكلة، أو بعبارة أدق وجود رجال دين من مختلف كنائسنا المشرقية ينفخون في مرجل التقسيم القومي إن عن جهل أو لمصالح شخصية وفؤية.. ولرفع نسبة نجاح مثل هكذا محاولة أو مسعى يمكن الاستعانة بشخصيات قومية مستقلة ومثقفين غير مؤدلجين لتشكيل نواة الهيئة المشرفة على ورقة التعاون، ومن الضرورة لاحقاً توسيع الهيئة وتطعيمها بخبرات وتخصصات سياسية وقانونية واجتماعية من شأنها تبويب وتنظيم المقترحات.. بالتأكيد سيكون هناك من يشكك بالمقترح أو يقلل من أهميتة أو ضرورته، وهنا سأرد بكل وضوح بالتالي (إذا لم نسع إلى التغيير فلن نتمكن من الاستمرار كشعب عريق صاحب قضية عادلة)، كما أن محاولة التجديد والتغيير هذه في حال فشلها ستبين لنا من هم الحريصون على مصلحة الشعب ويهمهم أمر مستقبله ومن هم غير ذلك.. حيث عندها سيترتب علينا واجب آخر وهو كشف المرائين ومن يستغفلون شعبنا بشعاراتهم المزيفة وتعريتهم أمام الرأي العام وربما حتى مقاطعتهم ومحاسبتهم (أخلاقياً)، لأن من يصر على بقاء حالنا المزرية كما هي ويرفض التغيير ويناهض الوحدة والاتفاق سيستحق الازدراء والتجريم.
علينا أن نحترم ونعتز بجميع التسميات وكفى هذياناً حول الأقدم والأكبر والأصح، ومن يستأنس بفتنة التسميات ويستغلها عليه ان يعرف أنه رهان خاسر سيحرقه هو قبل أن يضر بالآخرين، فاذا كانت الغاية الرئيسية لدعاة القومية (تحت أي مسمى كانت) هي الحفاظ على ثقافة الأمة، فأين الاختلاف ولماذا الخلاف؟!.. أم إن لغة الكلداني غير لغة الأشوري والسرياني، أو أن تاريخ الأشوري منفصل عن تاريخ الكلداني والسرياني، أو ربما أن جغرافية السرياني مختلفة عن جغرافية الأشوري والكلداني؟؟؟!!!.