ترميم الذات القومية – ج1
جدلية الفرد والجماعة.. بين الحاجة إلى التغيير وضرورات الاستمرار – الجزء الأول
جورج هسدو
مقدمة
“إشتراك مجوعة من البشر يؤمنون بثقافة موحدة ويعتنقون نفس الخصوصيات اللغوية والتاريخية والجغرافية وحتى العادات والتقاليد، وهم يعتزون بماضي أسلافهم ويعتبرون أنفسهم الوريث الشرعي لهم ويتفاخرون بمنجزاتهم ويعملون على الحفاظ عليها وتطويرها”.
عندما فكرت بكتابة الموضوع تبادر إلى ذهني أن يكون العنوان معكوساً، من قبيل ((خراب الذات القومية.. بين التخبط الفردي والفشل المؤسساتي))، إلا أني تراجعت وتحولت 180 درجة في طرح العنوان وبالتالي محتوى المقال من التركيز على السلبي إلى السعي للإيجابي.. وليس السبب هو أني لست من محبي طرح السلبيات، بل بالعكس فأنا أؤمن أن وضع الأصبع على الجرح هو أهم طريق للوصول إلى العلاج، كما لم يأت ذلك من منطلق طوباوي لإضفاء اللون الوردي على قتامة المشهد القومي الذي بات يغلف أغلب توجهاتنا السياسية ومساعينا المدنية.. بل أن التحول في الطرح من التشاؤم إلى التفاؤل جاء لسبب بسيط، وهو أن شعبنا اليوم قد وصل فعلاً لحالة (اللاوجودية) والتيهان القومي، وهو ليس بحاجة للمزيد من التنظيرات والتحليلات الخيالية ولا إلى جرد حساب للماضي، بل إذا كان من الضروري (وللضرورة فقط) البحث عن حسنات المستقبل عن طريق تفتيت مساوئ الحاضر ودراسة عثرات الماضي.. وقد لا يختلف اثنان على أن أسوأ ما يفتت وحدتنا المجتمعية ويشد مساعي شعبنا القومية للوراء هو ما بات يسمى بـ (إشكالية التسمية)، ولعل بسعينا لترميم ذاتنا وترسيخ عراقتنا وتذليل نزاعاتنا الداخلية سنتوصل إلى اسم وهوية جامعة وموحدة، وهو بالتأكيد ما سيفتح الأبواب لترك أدران الماضي والتطلع للأمام.
يقسم علم الاجتماع اليوم القومية إلى العديد من الأنواع كالقومية المدنية والثورية والمحافظة والقومية الايدلوجية وغيرها، ولكل من هذه الأنماط مفهومه الخاص كما لكل فرع منها تعريفه الذي يتشابه بالفكرة العامة ويختلف بالتفسير والغاية عن الأخريات ناهيك عن التدرج التاريخي والتباين الفلسفي.. لكن ما يهمنا هنا وما نحن بصدد التطرق إليه هو القومية العرقية، والتي ببساطة تعني “إشتراك مجوعة من البشر يؤمنون بثقافة موحدة ويعتنقون نفس الخصوصيات اللغوية والتاريخية والجغرافية وحتى العادات والتقاليد، وهم يعتزون بماضي أسلافهم ويعتبرون أنفسهم الوريث الشرعي لهم ويتفاخرون بمنجزاتهم ويعملون على الحفاظ عليها وتطويرها”.. والأهم هو وجود عامل أو شرط (الإيمان) الذي يتصدر التعريف، فمن غير الإيمان بتلك المشتركات وعدم الإعتراف بذلك التراث ونكران تاريخ الأسلاف سيلغي الشعور بالانتماء للمجموعة العرقية، وبالتالي سيدفع المرء للتمسك بهوية وتاريخ مختلف، وهو الأمر الذي قد يتحول أحياناً (لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية ومؤثرات داخلية وخارجية) إلى رفض المجموعة الأصلية وإستعداء أفرادها والتعامل معهم بشراسة مفرطة.. ولا يكتمل الشرط الأول إلا بالتوازي مع الشرط الثاني وهو، العمل على الحفاظ على خصوصيات المجموعة العرقية وتطويرها، حيث إهمال الخصوصيات والاستقبال السلس للمختلفات سيؤدي بالنتيجة إلى ضياع المجموعة القومية (والتي غالباً ما تكون صغيرة) وانصهارها في ثقافة الأغلبيات الأكبر.. إلا أن فقدان المجموعة العرقية لخصائصها لا يحدث صدفة أو فجأة، بل هو يمر بمراحل مختلفة ويتعرض لصدمات متعددة تؤثر على الفرد وتدفعه للتخلي عن خصوصياته تدريجياً، حيث شيئاً فشيئاً سيقتنع بأنه غير ما كان أجداده عليه أو أنه (تطور) ليكون أرقى وأفضل منهم.
وفي حالة شعبنا فأنه ورغم وجود كل تلك المشتركات ورغم وضوح الصورة العامة والتي ترتكز على العوامل العلمية الثلاث (الجغرافية، اللغة والتاريخ) إلا أن الشعور بالهوية المشتركة يتعرض الى التشظي والإيمان بوحدة المصير يعاني من التشكيك، وهو ما يضعف الذات القومية ويشوهها.. كما أن هناك عوامل ضاغطة تدفع باتجاه إلهاء المرء وإبعاده عن التفكير بـ (من هو؟) وحصره في زاوية التركيز على (ما هو؟)، في مقدمتها تأثيرات الأحداث السياسية المحيطة وصعوبات الحياة اليومية وضرورات العيش الرغيد والأمين في ظل تزايد مخاطر وتهديدات البقاء.. وقد يخلق التنازع بين إلتزام المرء بنسبه وماهيته المكونة لشخصيته المعنوية وبين إهتمامه وتشبثه بمتطلباته المادية صراعاً داخلياً، وهو الصراع الذي (وفي أحيان كثيرة) يولد حالة من التأرجح والتردد العقلي وحتى العصيان والتمرد على الأفكار الراسخة مقابل الاستسلام للقناعات المتزعزعة.. وعلى الرغم من وجود أكثر من مسبب لكل ذلك التشظي والتشكيك والتشويه، إلا أن ما يتقدم قائمة المسببات هو تعدد المنتمين أو المؤمنين بهوية محددة دون غيرها، لابل أن الحالة وصلت بالبعض لاستعداء أبناء عرقهم وأخوانهم في الدين وأحياناً حتى المشتركين معهم بالمذهب.. وقد يكون هناك من بين المتعصبين لتسمية محددة لشعبنا ممن يؤمنون بها فعلياً ومن لهم مرتكزاتهم الخاصة التي يعتبرونها خط أحمر لا يمكن تجاوزه، إلا أن الأكثرية من مروجي الأسم الواحد (المجزء) أو (الحاوي) لباقي الأسماء من المستنفعين وأصحاب ردود الأفعال وأنصاف المثقفين وأسوأهم.. الطائفيون.
لكن أول ما يتبادر إلى ذهن السائل هنا هو، لماذا نحتاج إلى قومية جامعة أو أسم موحد؟؟، ماذا يمكن أن يضيف لنا (كأفراد وحتى مجاميع) الإنتماء لعنوان شامل؟، ماهي المميزات التي سيتم جنيها من الإتفاق على هوية مشتركة وإتحاد قومي؟، وبالمقابل مالضير من إحتفاظ كل مجموعة بخصوصيتها وشخصيتها المنفردة؟.. ماهي نسبة الخسارات مقابل المكتسبات إذا ما كان شعبنا يحمل تسميات متعددة؟، أين الخلل في أن يكون لنا أكثر من أسم مع الإحتفاظ بوحدة الصف في مواجهة التحديات المحيطة والتي لا تفرق بين المختلفين؟، هل لا بد من أن يؤدي الإختلاف إلى الخلاف أم أنه بالامكان أن يكون في التنوع قوة؟؟.. وقبل معرفة السبب أو على الأقل الوصول إلى إجابات مرضية لابد من سرد المعطيات وتحليل الوقائع للوصول إلى إجابة (مقنعة)، وهو ما سنقوم بتثبيته في نهاية المقال الذي لن يقتصر على التحليل وحسب، بل سيتضمن رؤية من الممكن إعتمادها أو التركيز عليها لرأب الصدع بين أطياف شعبنا أولاً، ولبناء شخصية قومية مستقرة لاحقاً.. ورغم أن الفرد يعتبر العنصر الأساسي في بناء المجتمعات حيث دون بناء الفرد لا يمكن بناء مجتمع صحي وفاعل، إلا أنه في حالة شعبنا الفاقد للأرض والحضور الوطني، فأنني أرى من الضروري التركيز على ترميم الذات الجماعية لشعبنا للوصول إلى وضع الذات الفردية في إطارها الصحيح بما يخدم القضايا العامة خاصة وأننا نتعايش مع محيط سياسي خطر وإجتماعي رافض للتنوع.