انثيال – الأكف – القسم الأول – هيثم بهنام بُردى
ما يخطه الآن يبدو وكأنه كان حلماً وهو يعيش هذه الوقائع، وفي خلواته -وقد تقدم به العمر-، يعتقد، بل يجزم أن الواقع والافتراض وجهان لعملة واحدة، وأنه عاش تلك اللحظات في حلم… إن كان في المنام أم في اليقظة، وأيا كان فهو موقن أنه عاشها في الحالتين، وأحياناً وخاصة في الحدثين الأولين كان يحدث أنداده وكأنه يقص عليهم حلماً لم تقطعه اليقظة المفاجئة، بل كان حلماً بتفاصيل كاملة، ولكنه وهو يلمح تلك النظرة الدهشة من عيونهم، هم الذي عاشوها وكان بمعيتهم بكل تفاصيلها، إن كان والده أم زملاءه التلاميذ، -ما خلا الأخيرة، التي سيأتي ذكرها في نهاية المطاف لن يستطيع أحد تأكيدها أو نفيها لأنه كان لوحده حينها-، ولم يخرزه أحد ممن ورد ذكره أعلاه، كمن به عته ذاكرتي، لأن ما يقصه عليهم كحلم عاشوه معه كواقع لا يمكن أن ينسى، وأياً كان الأمر فهو سيسرد ما عاشه في تلك الدقائق الهاربة من أعطاف الزمن وبتسلسلها الزمني… كما عاشها في حلم كما يظن، والعلم كما يؤكدها من عاشها معه……وسيبدأ الآن بسرد حادثة الكف الأولى……الكف الأولى:صيف عام 1960صاح أحد النزلاء وهو يركض وزوجته تلحق به وقد تلفعت بعباءتها السوداء..- إنه في شارع الرشيد.هتف به العم يشوع وهو ينهض ويطل من خلال شرفة الشناشيل الزاهية التي تتبرج بها دور حي المربعة ببغداد، حي الفقراء والكادحين الآتين من القرى والأرياف من شمال العراق إلى جنوبه مروراً بأوسطه، ولكن وللحقيقة والتاريخ، أن العوائل الآتية من قرى نينوى وخاصة من “بغديدا” كان لهم القدح المعلى في السكن بدوره التي ينبعث منها رائحة العتق والأثالة بكل تجلياتها، ببيوتها ذات الشناشيل الخشبية وأزقتها المزفتة التي تخترقها مجارٍ يشم منها كافة الروائح المتعلقة بطهي كافة أصناف الطعام والتي يبكر بها الرجال مع اطلالة الفجر وهم يدفعون عرباتهم المكشوفة التي يستوطن سطحها أوانٍ حددت لها أماكن حيث تطل سطوحها وهي تطلق أبخرة تعلن عن ماهية البضاعة تحف بها علب التوابل والبهار والملح جنب الأواني المصنوعة من النحاس ولوازم الأكلات السريعة المتمثلة بالكبة والباقلاء والحمص والبيض المسلوق… وأبصار أقدامهم المدربة تقود الأبدان الضامرة نحو كراج العلاوي أو النهضة أو قرب بوابات دوائر الدولة التي يكتظ على أعتابها منذ الصباح الباكر المراجعون، وساحة الطيران حيث مرتع العمال الباحثين عن عمل……. إلخ، وهناك يرتزق هؤلاء الرجال وغالباً ما يكون موعد أوبتهم إلى بيوتهم في الضحى، نظر عمه إلى الشارع ولمح الساكن معه يتبعه آخرون من المنزل نفسه.- من هو..؟صدح صوت الآخر دون أن يرفع طرفه.- الزعيم.إلتفت عمه نحو أبيه الجالس على الكنبة الخشبية وهو يتابع أخبار المساء من التلفاز وقال.- هيا يا بهنام.فز والده وكأنه كان في عالم آخر، وسأل بذهول.- ماذا حدث؟أجابه شقيقه الأكبر وهو يعدل عقاله على رأسه.- الزعيم يتجول في شارع الرشيد.- حقاً؟!.ونهض والده على عجل فتعلق هو بطرف بنطاله وهو يهمس.- بابا…وبخفة من يحمل رضيعاً في حوله الأول وليس طفلاً يتخطى العتبة السادسة من العمر، أركنه على صدره ونزل الدرج المبني من الآجر العتيق ولحق بأخيه الأكبر وسط زحمة الزقاق الذي كان مكتظاً بالرجال والنساء والشباب والصبايا والأطفال ووجهتهم الفرع المفضي إلى شارع الرشيد الذي قابل بناية الأورزدي باك ذات البناء الفخم الحديث.. ووسط القامات المزدحمة لم يجد والده مناصاً من أن يحمله على رقبته فتدلت ساقاه وتشابكتا في صدره وإشرأب بعنقه مستطلعاً… كان الناس مصطفين على جانبي الرصيف وثمة رجل عسكري بثياب بسيطة وسدارة مميزة ووجه مبتسم، وكان راجلاً يقود دراجة هوائية، وهو يحيى الناس التي تهتف باسمه بانحناءة من رأسه وقد وضع كفه على صدره الأيسر وثمة عسكري آخر، واحد ليس غير، يمشي خلفه، والزعيم يرد على من يحدثه ويقف مع من يستأذنه بطلب… وحين وصل إلى حيث يقف والده وعمه ولمحه وهو على رقبة والده ينظر إليه بدهشة، ابتسم الرجل له، فبادله ابتسامة طفولية مشرقة، وخرج هتافه وسط الصمت الذي ران لهنيهة قصيرة جداً جعلت هتاف الطفل يجلو بموسيقى لا تجترحها إلا ذائقة طفل بري.- عاش الزعيم عبدالكريم. فما كان من العسكري سوى أن يحيه بابتسامة أكثر اشراقا ومشى وهو يقود دراجته بيديه من الوالد ثم مد كفه وداعب شعر الطفل المسترسل وهمس له.- تعيش.وما أن اجتازهم حتى رفع كفه ملوحاً، فخال الوالد والعم ورهط من الحضور حولهما أن هذه التحية كانت موجهة لهم بشكل عام وللطفل المتصقر على رقبة رجل ثلاثيني بشكل خاص.
“*” معجم المعاني:- انثالت عليه الأفكار: تتابعت فلم يدر بأيها يبدأ.- وانثالت عليه العبارات: تتابعت وكثُرت فلم يدر بأيها ينطق.