الماركسية والرأسمالية والإلحاد
عماد هرمز – ملبورن استراليا
أتذكر فترة معينة من سبعينيات القرن الماضي، العشرون، قام أتباع النظام البعثي البائد من رجال الأمن وغيرهم بتمزيق ورمي كتب القرآن في الشوارع، وقيل نقلاً عن شهود عيان أن بعضهم كان يستقيل دراجات نارية يرمون بكتب القرآن الممزقة في الشوارع مطلقين عبارات تنم عن الكفر بالله وشائعين أخبار تقول أن الشيوعيون هم من يقومون بذلك لانهم ملحدين وهم ضد الأديان.
وضلت الحكومات الغربية وغيرها (المسيحية والإسلامية) تقرع الطبول حول الشيوعية والإلحاد مستغلةً نصاً أقتبس من مقدمة الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس جاء فيه أن “الدين أفيون الشعوب” متعمدة قصداً طرحه خارج سياق النص الذي جاء فيه والذي له معاني كثيرة. هذا النص ذُكر في مقدمة كتاب كارل ماركس في نقده لفلسفة هيغل والذي نشر تحت مسمى “نقد فلسفة الحق عند هيغل”. وعمدت الجهاد المضادة للاشتراكية والشيوعية العزف على هذا الوتر الذي يسيء للفكر الماركسي الفلسفي الاقتصادي. وبالطبع قامت تلك الجهات المُعادية للشيوعية بإخفاء السياق الذي جاء فيه والمعنى المقصود به الذي لا ينم عن أي عدائية للدين.
في الحقيقة أن هذه المقولة جاءت في وقت كانت فيه الإقطاعية (أصحاب الأملاك – المزارع والحقول) في علاقة وثيقة ومتينة مع الكنيسة (بمختلف انتماءاتها) ومدعومة من قبلها إلى حد كبير على حساب الفلاحين فكانا الطرفان مستفيدان فالأول يسلب الفلاحين قوتهم ، وهذا كان مضمون شعر أغنية “خازادي قومون مكلن شقلاخلي” لملك الطرب الآشوري إيوان اغاسي. وبالمقابل تأخذ الكنيسة حصتها فتستغل الدين وسيلة لتهدئة (تخدير) الفلاحين والعمال المُطالبين بحقوقهم.
وبما أن الماركسية هي فلسفة سياسية اقتصادية اجتماعية تهدف إلى تسليم الحكم والسلطة والقوة ووضعها في يد الطبقة العاملة، جاءت هذه الفلسفة والسياسية مُعادية للإقطاعية ومن يساندها (الكنيسة آنذاك). وأيضاً كون الفلسفة الماركسية وجودية أي تؤمن بالمحسوس والملموس فأنها بالتأكيد لا تقبل المثالية أو الدينية مع ذلك فهي لا تعادي الأديان ولا تحاربها، بل تحترمها والوقت التي تحارب الماركسية غيرها من الفلسفات والأفكار والقيم (مهما كان مصدرها) عندما تكون تلك الفلسفات أو الأفكار مضادة للطبقة العاملة وتقف في طريق نيل حقوقهم.
حدثت ثورات كثيرة منها الثورة الفرنسية التي ثارت لنيل حقوق الضعفاء ضد التحالف السلطوي بين الكنسية والحاكم لتمهد الطريق إلى الثورة البلشفية (الشيوعية الماركسية) في الإتحاد السوفيتي وقتها في عام 1917. وبالطبع كانت الكنيسة هي ضحية تلك الثورات، كونها المساندة للإقطاعية الحاكمة، التي كانت تستغل الفلاحين وتبتزهم وتسرق قوتهم وقواهم والطبقة العاملة.
ومن شاهد مسلسل القيصر الأخيرWatch The Last Czars الذي يُعرض على منصة النيت فليكس سيفهم لماذا قام الشيوعيين الآوائل بإعدام القيصر وقتها نيكولاس الثاني وعائلته التي اصبحت في الآونة الأخيرة من حكمها تحت سيطرة ونفوذ وتأثير كاهن مُزيّف، ستجدون كيف أن هذا الكاهن تمكن من التغلغل والتأثير الكبير على العائلة القيصرية لدرجة تمكنه من ممارسة الجنس مع زوجة القيصر نفسه واستحوذ عليها كلياً فكرياً وجسدياً. وبما أن شخصية القيصر كانت ضعيفة جداً وتقوده زوجته في قراراته السياسية والإجتماعية الخاصة بروسياً وبحكم وقوعها ضحية واستحواذ الكاهن المُزيّف ، أصبح الأخير (الكاهن) هو الآمر الناهي والحاكم في البلاد وكانت قراراته السياسية مستندة على العقائد الدينية، كأن يأخذ قرار عسكري مبني على رؤية جاءت له، وبالتالي مبنية على مشيئة الرب ، بدلاً من أن تكون واقعية وموضوعية وهكذا خسرت روسيا الحرب وقتها وتكبدت خسائر فادحة في أساطيلها البحرية وتدهور وضعها الاجتماعي والسياسي والإقتصادي بسبب التحكم إلى الدين في إدراة شؤون البلد وليس على البرلمان الذي اصبح مخصي وغير فعال وحتى تدخلت زوجة القيصر لتطلب بطرد اعضاء البرلمان وقتها، وهكذا كل القرارات كانت بعيدة عن الموضوعية السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
وفي خبر تلفازي عن نشاطات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي كان احد العناصر المهمة في الحزب الشيوعي الروسي، الذي تم اختياره شخصياً من قبل الرئيسان غرباتشوف قبل تفكك الإتحاد السوفيتي ويلتسين بعده. ظهر بوتين وهو يزور أحدى الكنائس الرئيسية في موسكو حانياً رأسه أمام ايقونة منتصبة أمام المذبح وراسماً علامة الصليب على وجه. ونلاحظ فيها فخامة الكنيسة واحترام بوتين للبطريرك واحترام البطريك المقابل له.
ويجدر الإشارة هنا إلى أن رغم أن نسبة من الشيوعيين قد يكونون غير مؤمنين ولكنهم ليسوا عدائيين للمؤمنين أو للكنيسة بتاتاً فأن أخلاق الشيوعية ومبادئها تستند على أحترام الأخر بكل جوانبه الفكرية والعقائدية والإجتماعية والعرقية والدينية وتساند الضعيف وتدعو إلى نيل الحق الشرعي للطبقة العاملة من العمال والفلاحين، لكن في نفس الوقت فأن الاشتراكية تعادي من يقف ضد مصالح الطبقة العاملة من الفلاحين والعمال حتى وإن كانت المؤسسة الكنسية، وهكذا نرى رمز الشيوعية يتمثل في المنجل والمطرقة (الجاكوج) وشعارها يا عمال العالم اتحدوا.
بعد سقوط الإتحاد السوفيتي والنظام الشيوعي في روسيا انتعشت الديانة المسيحية في روسيا. فبحسب الإحصاءات فأن “في عام 1991 عشية سقوط الاتحاد السوفيتي كان 37% من سكان روسيا أرثوذكس شرقيين. بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ارتفعت نسبة الانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية بشكل كبير، ويبرز ذلك في عام 2015، حيث أعلن حوالي 71% من سكان روسيا عن كونهم أرثوذكس شرقيين، بالمقابل انخفضت نسبة الذين عرفوا على أنهم غير متدينين دينيًا أو لادينيين من 61% في عام 1991 إلى 18% في عام 2008”. وفي عام 2018 خلال احتفال بمناسبة الذكرى الثلاثين بعد الألف لاعتماد المسيحية من قبل الأمير فلاديمير، قال فلاديمير بوتين إن تبني المسيحية هو “نقطة البداية لتشكل وتطور الدولة الروسية، والولادة الروحية الحقيقية لأسلافنا، وتحديد الهوية، وازدهار الثقافة الوطنية والتعليم “. وبحسب وسائل الإعلام تُعد هذه التصريحات تأكيد على الروابط القويَّة بين الحكومة والكنيسة الروسية الأرثوذكسية. أ/ا تقدير المتديّنين في روسيا وبحسب ما جاء في موقع سترنج فكسر فأنه رغم عدم وجود إحصاء حكومي رسمي لكن تتفق أغلب الدراسات الإحصائية على أن نسبة المتدينين الروسين في روسيا تقدر بـ 76% وهم مؤمنون مسيحيون وأغلبيتهم تابعين للكنيسة الأرثدوكسية الروسية. بمعنى آخر أن الشيوعية رغم موقفها من الكنيسة إلا أنها ليس مضادة لها بل هي مضادة لتعاليم الإستسلام والتبعية للسلطة التي كانت الكنيسة تدعو لها.
بمعنى آخر بأن روسيا وغير من الدول الشيوعية لم تعمل على إقصاء المسيحية من جذورها بل هناك الكثير من الشيوعيين يؤمنون بأن المسيح كان اشتراكيا بنفسه عندما طالب الآخرين بمشاركة رداءهم مع المحتاجين.
وفي مقارنة لوضع المسيحيين في استراليا نجد أن نسبة المؤمنين في بلد مثل استرالياً الذي يعتبر ديمقراطي علماني راسمالي في تضاءل مستمر، حيث كانت استراليا في بديتها مسيحية بالكامل، لكن الحرية الفردية والأنفتاح على العالم عزف الكثير من الأستراليين عن الديانة المسيحية . وهذا ما عكسه أخر احصاء سكاني في استراليا، حيث اظهرت نتائج إحصاءات التعداد السكاني لعام 2021 بأن نسبة عدد المؤمنين المسيحيين قد أنخفض خلال السنوات الخمس الماضية إلى دون 50% وزاد عدد المؤمنين بالديانة البوذية وزيادة ملحوظة في العديد الذي وصفوا نفسهم بأنهم لا يؤمنون بأي ديانة.
بمعنى اخر أن نسية عدد المؤمنين المسيحيين في روسياً (الشيوعية سابقاً) هو اكثر بكثير من نسبة المؤمنين في استراليا. وهذا اكبر دليل على ان الشيوعية غير معادية للدين وبالتحديد للدين المسيحي لكنها تعارض أي توجه فكري أو ديني أو عقائدي يُعادي أو يقف في طريق نيل العمال حقوقهم. هذه الحقوق المسّطرة بحروف حمراء في إعلان الماركسية التي اتخذت شعاراً سياسياً لها “يا عمال العالم اتحدو”
المصادر: