القصة القصيرة جداً… الأسئلة مستمرة – قراءة في مجموعة (حب مع وقف التنفيذ) للقاص هيثم بهنام بردى – عبد الستار البيضاني
نشرت صحيفة [ أوروك ] التي تصدر عن وزارة الثقافة العراقية وفي باب (قراءات) بعددها 40 الصادر يوم الثلاثاء 17/ 8/ 2021 دراسة نقدية للقاص والروائي العراقي عبدالستار البيضاني بعنوان ( القصة القصيرة جداً/ الأسئلة مستمرة ” قراءة في مجموعة {حب مع وقف التنفيذ} للقاص هثم بهنام بردى)…
وعلى الرابط التالي:
https://www.facebook.com/Uruknewspaper-108865444327144
***
القصة القصيرة جداً.. الأسئلة مستمرة
قراءة في مجموعة (حب مع وقف التنفيذ) للقاص هيثم بهنام بردى
- عبد الستار البيضاني
“هل صحيح أنَّ القصة القصيرة جداً نمط أدبي بلا شروط فنية أو حدود نقدية؟ البعض من الكتاب يتبنى الجواب الإيجابي لهذا السؤال، ويستدل على صحة رأيه وبقوله: إنَّ هذا النمط القصصي لا يفتقد إلى الحصانة النقدية فقط، وإنَّما إلى استقرار الاصطلاح النقدي أو التسمية التي يمكن أن تنضوي تحتها هذه الكتابات التي أصبحت مثار جدل حول أصلها ومبررات وجودها واشتراطاتها الفنية.. فهي لا تتوقف عند تعددية التسمية، بل إنَّ أسماء جديدة لها تظهر مع تقدم الزمن وهي أسماء قديمة قبلت في زمان سابق دون أن ينتبه إليها أحد.. وقد أطلقت ربما أسباب فردية بحتة أو مهنية (صحفية) فهي ضائعة بين (القصة القصيرة جداً) و( الصورة القلمية) و(استكشات قصصية) و(قصص السندويج) و(قصص بحجم راحة اليد)..الخ”
إذن فإن البعض من الكتّاب وجد في عدم الاستقرار هذا موجباً للتحرر من القيود الفنية وهذا ما أدى إلى سيادة الارتباك في الكثير من النتاجات التي جاءت في هذا الاتجاه، وبالتالي التأثير على الخطوات الجادة التي تبناها بعض الأدباء المخلصين لهذا اللون القصصي والمؤسسات الصحفية، لترصين كيان القصة القصيرة جداً ورسم ملامحها الثابتة من خلال دراسة واقع نشوئها واستنباط قوانينها الفنية والنقدية وتلمس العمق التاريخي لهاعبر الإمساك بومضات متناثرة هنا وهناك في المراحل التاريخية من حياة مشاهير الأدباء.
ولعل محاولة مجلة (الطليعة الأدبية) في عددها الخاص لعام 1982 الذي احتوى على ملف خاص للقصة القصيرة جداً يعد من الخطوات المهمة في هذا المجال على صعيد الصحافة العراقية. إذ سبقتها بسنوات مجلة (الموقف الأدبي) السورية، وفيما بعد جاءت محاولة جريدة (القادسية)، كما أن هناك العديد من محاولات الأدباء العراقيين لترصين هذا اللون القصصي من خلال إصدارهم مجاميع خاصة بالقصة القصيرة جداً ومنهم القاص إبراهيم أحمد والقاص خالد حبيب الراوي. إضافة إلى محاولة أو محاولتين لم تكونا ذات شأن أثناء صدورهما، وآخر هذه المحاولات جاءت على يد القاص الشاب هيثم بهنام بردى الذي أصدر مجموعته الجديدة (حب مع وقف التنفيذ) التي ضمت (28) قصة قصيرة جداً مع مقدمتين حاولتا تسليط الضوء على هذا اللون القصصي مع الإشارة إلى بعض قصص المجموعة.
وهيثم بهنام بردى لم يكن طارئاً على القصة القصيرة جداً، بل إنه من أوائل الشباب الذين اهتموا بها، حيث كان من المشاركين في ملف (الطليعة الأدبية) بثلاث قصص، لذلك فان صدور مجموعته بعد سبع سنوات من صدور عدد (الطليعة الأدبية) انف الذكر. يعني أن القاص كان جاداً ومثابراً في بناء نص قصصي يمتلك شروطه الفنية ويبني حدوده النقدية وسط محاولات تسعى لسحب الاعتراف بلون قصصي من هذا النوع، لذلك فانه عندما كتب نصه لابد أن أفاد من هذا المجال وكوّن رؤية نقدية تعينه على بناء نصّه الذي يحاول أن يفند الدعوات التي تعتبر القصة القصيرة جداً محطة استراحة او ترف كتابي لا يمكن للأديب أن يعول عليه في تخليد اسمه أو تشييد بنائه الفكري… والسؤال الذي يبرز الآن هو: هل استطاع هيثم بهنام بردى تحقيق ذلك؟
من البديهي القول إنَّ الإبداع لا يمكن أن ينمو ويتحقق في ظل قوالب وحدود هندسية صارمة وقاسية في أحكامها، إذ أن قولبة الإبداع يتناقض تماماً والإبداع نفسه، لذلك فإننا عندما نتحدث عن افتقاد الشروط الفنية والقياسات النقدية لفن القصة القصيرة جداً لا تعني المطالبة بوضع او استنباط قوانين صارمة وإنما نريد أن نرسم ملامح عامة تحمي النمط الكتابي من ان يكون نهباً للمواهب القاصرة، والقراءة المتأنية لقصص المجموعة توضح لنا ان القاص يدرك تماماً خطورة أن تصدر مجموعة قصص قصيرة جداً، لذلك فانه لابدَّ وأن يفكر كثيراً لكي لا يجعل من قصر القصة مبرراً لإطلاق هذه التسمية على قصصه حيث حاول ان يستغل مساحة القصة الضيقة لكي يؤسس على نقاط إضاءة تعكس حدثاً أكثر اتساعاً وشمولية في ذهن القارئ، كما في قصة (حب مع وقف التنفيذ)، فمراقبة البطل للعالم عبر النافذة وتوقف نظره على أشياء محدودة بقصدية واضحة ترسم أزمته الداخلية. فهناك ملابس أنثى وردية، وطير بواقع حمامة وقطة بيضاء تهر بانتظار شهر شباط، إن دلالة هذه الأشياء واضحة حيث تتشكل منها أزمة البطل الجنسية التي تتسع لتصل إلى منبعها ومغزى نشوئها وعلاقتها بعزلة البطل في غرفة خالية إلا من نافذة وعنكبوت في العمق.. وفي نفس الاتجاه تسير قصة (اليد) التي تعد برأينا من أفضل قصص المجموعة إذ تمتاز بالهدوء وقوة بنائها ودلالة حدثها وشفافيته حيث أظهر فيها القاص مهارة رائعة بالسيطرة على الحدث الذي امتاز بحزنه الشفاف الذي ينبثق من خلال التماعات ضوئية خفيفة تظهر معاناة وحزن البطل وغياب أمه الذي ترك لديه فراغاً لم يستمر طويلاً، فقد كانت الزوجة خير كابح لتطاول الحزن وملاذاً رائعاً مسح حالة الفقدان التي رسمها القاص باقتصاد كبير وترك للقارئ المجال في صياغة التفاصيل.
ولا تخرج عن هذا الإطار أيضاً قصتا (الشقوق) و (العاصفة) اللتان تدوران في موضوع واحد وهو العزلة ـ رغم إن العزلة تشكل محوراً أساسياً في المجموعة-. وإذا كانت العزلة في قصة (حب مع وقف التنفيذ) عزلة مكانية مؤشرة بشواهد مادية، فإنها في قصة (الشقوق) عزلة ذاتية قائمة على الإحباط والجوع.. فالقاص هنا لا يتحدث عن وسائل إيصال يرسم من خلالها المشهد المقابل للشابين العاشقين الجالسين تحت الشجرة، ويهمسان لبعضهما البعض بكلمات الحب ويقبِّل أحدهما الآخر، فهي في ظاهرها تستنكر ما يفعلانه الشابان، لكن الاستنكار هنا هو ليس لموقف أخلاقي أو اجتماعي، وإنما استنكار ناتج عن خيبة داخلية، نجح القاص في إظهارها برسمه للرجل الذي يرتدي (الصاية).. إنه مزج رائع لصورتين نتج عنهما رسم آخر لدواخل العجوز، ويأخذ الإيحاء في قصة (العاصفة) بعداً آخر يعتمد الحدث العادي الذي يقترب من السكون، رغم إيقاع جمله السريع، فتتحول القصة إلى حالة تبحث عن تفسير لدى القارئ؛ لكن ما يعاب على هذه القصة هو التقطيع الذي أرهق القصة وحدّ كثيراً من انسيابيتها، ولا أدري لماذا يؤكد القاص كثيراً على استخدام التقطيع ومن دون مبرر في كثير من القصص. وأعتقد إن هذا الاستخدام يتناقض تماما مع الأسس المتعارف عليها في فن القصة القصيرة جداً.. إذ إن التقطيع سوف يؤدي إلى تعدد زوايا النظر والالتقاط بينما التمسك بزاوية النظر الواحدة هو من اشتراطات القصة القصيرة جداً، إضافة إلى إنه سوف يشتت الحدث الذي لا بد وأن يمتاز بالسرعة والاقتضاب ويوسع من مساحة الزمان والمكان التي يجب أن تكون محدودة، وهذه ليست حالة استثنائية في المجموعة وإنما متكررة حيث توجد في معظم قصص المجموعة ومنها (علاقة) التي خرجت عن كونها قصة قصيرة جداً بسبب التقطيع، رغم ان القاص نجح إلى حد كبير في رسم مكونات المشهد المحصور في لقطة واحدة وهذه القصة تتكون من عدة مشاهد ولقطات يمكن اعتبار كل مشهد منها قصة قصيرة جداً ليس لطولها فقط وإنما لتكتيكها، وأعتقد إن هذا سبب كافٍ يجعلنا نضع هذه القصة خارج حدود القصة القصيرة جداً، فضلاً من إن القاص قد استخدم لغة تفصيلية وجملة طويلة، وأفرط في الوصف (قائمتاه الأماميتان معلقتان بين طيات الثلج المعلقة في الفضاء السحيق، وطيات الثلج المنبسطة أمامه لبرهة ثم أتبعها بقائمتيه الخلفيتين… ص11) وكل هذا الوصف لكي يقول: إن الكلب عبر الساقية، ويمكن أن نُخضِع لهذا الحكم قصص أخرى مثل (الثلج) و(رجل وحيد) و(الرقصة) و (شعاعان).. الخ.
هذا التفصيل والتقطيع في الحدث لا يتقاطع مع اشتراطات هذا اللون القصصي فحسب بل إنه يتناقض مع أسلوب القاص نفسه، ففي الوقت الذي تجد هذه الإشكالات في قصة (علاقة) نجد إن قصة (صدى) تتجاوزها وتقف على النقيض تماماً لتستفيد من كل ما متوفر من عناصر تتحول إلى عوامل إسناد وقوة لبناء القصة، وقد عمل القاص جاهداً لاستثمار الطبيعة وتحولات المناخ كمفاتيح لفتح مغاليق المرأة الوحيدة التي تنتظر زوجها وهي تواجه الجبل ذا الأشجار.. لقد تمكن هيثم في هذه القصة أن يترجم لغة الجماد ويستنبط منها إفادتها بشأن البطلة كما إن القاص استخدم في هذه القصة لغة رائعة فاقت في مستواها جميع قصص المجموعة، لغة اقتربت في الكثير من مواضعها إلى الشعر. إن (صدى) هي الإضاءة التي يمكن أن نكشف من خلالها زوائد قصص (علاقة) و (الثلج) وغيرها من القصص التي جرّت القاص بعيداً عن مواقع خطواته التي يحاول أن ينقلها إلى الأمام.
إنَّ كثرة عدد قصص المجموعة وتنوع موضوعاتها لا يعني خلوها من محاور محدودة اشتركت فيها عدة قصص سواء من ناحية الأشكال والمضامين، حيث يمكننا أن نتلمس بسهولة بحث القارئ المضني عن براءة العالم وسط عزلة ماحقة تحاول أن تلغي وجوده، فوحشية العالم موجودة دائما وفي أبسط تفاصيل الحياة اليومية وأحيانا تداهمنا من حيث لا ندري، كما في قصص (النافذة) و (الهاجس) و(اللعبة) و (السيناريو) ففي قصة (الهاجس) يُباغت السائق بخيط الدم النازل على زجاجة سيارته الأمامية والحمامة المخضبة بدمها والساقطة على أسفلت الشارع، وفي (اللعبة) يتألم الأب لفرح الطفل الذي ضرب (السنونو)، فقد كان السنونو ضحية لبراءة لعب الطفولة. وفي (سيناريو) تكون وحشية العالم أكثر حيث تمكّن القاص من تقديم الفكرة بقوة وحيوية لا تخلو من عنصر الدراما.. فقد كان بإمكانه أن يكتفي بدهس الحمار وسقوطه على الشارع ميتاً، لتتشابه بالتالي مع قصة (الهاجس) لكن القاص أوغل في إبراز المأساة وفصل بين القصتين عندما رسم وبشكل رائع الجحش الواقف عند جثة أمه وهو يحاول أن يرضع من أثدائها.. وإذا كانت هذه القصص قد اعتمدت على واقعية الحدث فإن قصة (النافذة) قامت على حدث مفترض وإن اشتركت معهن في المحور.. فحدثها تطور لحالة واقعية هي اللوحة والشيخ النائم الذي يبدو وإنه أديب، لكن ثمة أخطاء وقع فيها القاص أثناء تنفيذه لبعض هذه القصص، وخاصة (النافذة) و (الهاجس)، فقد أصر على مط نهاياتها وعلى تدخله في لوي مسار الحدث مما أفقد القصص تماسكها وأسقطها في المباشرة… إذ لا أجد مبرراً لإضافة القاص لحوار الشاعر إلى العصفور في نهاية قصة (النافذة)، إذ كان الأحرى به أن يكتفي بتمسيد الشيخ لريش العصفور ومناغاته، إذ في هذا دلالة كبيرة تفجر مضمون القصة بدون الكلام المباشر، ونفس الشيء يقال لقصة (الهاجس) إذ كان ينبغي أن تتوقف القصة عند اكتشاف البطل أن المصاب حمامة. فلا داعي لشرح المشاعر، إذ إن أحداث القصة كفيلة في إيصال لهذا الشيء. كما هو الحال في قصص ناجحة أخرى ضمتها المجموعة.
إنَّ الجانب الإنساني عند هيثم بهنام بردى لا يتوقف عند القصص الذاتية أو القصص ذات المنحى الاجتماعي وأزماته المتعددة بل إنه يبرز حتى في القصص التي اتخذت منحىً سياسياً، إّذ إنه يتعامل مع الواقع وليس مع الشعار السياسي، وبذلك يؤكد انحيازه للإنسان وضمناً إلى الفكرة التي تأخذ الإنسان هدفاً لها، كما في قصص (ولادة) التي تتحدث عن الإنسان الفلسطيني و(الأرجوحة) عن اريتريا و(نمر أفريقيا) عن الشعوب الأفريقية المضطهدة. والى حد ما قصة (نشرة أخبار) التي يمتزج فيها الهم السياسي بالهم الاجتماعي ليتحول بالتالي إلى هم إنساني شامل يتحدد بتخليص الإنسانية من العبودية وتحقيق الحرية والعدالة عموماً.. إن أهمية مجموعة (حب مع وقف التنفيذ) لا تقف عند جودة نماذجها بل إنها تتعداها كونها من المجاميع المحدودة جداً في هذا اللون القصصي. كما إنها تأتي لتثير الأسئلة من جديد عن جدوى القصة القصيرة جداً ومشروعية وجودها.