أعلن معنا... أعلن معنا...
مقالاتمقالات ودراسات نقدية و بحوث

العراق المدني والتشيّع السياسي – ج4 – ماهر سلطان

الجزء الرابع

ثورة تشرين ج/2

     استكمالاً لمشاهد ثورة تشرين العظيمة، وأسبابها ومخرجاتها وأبرز لحظاتها التاريخية، وكيفية تفاعل المجتمع معها، وردّة فعل الأحزاب الحاكمة تجاهها، مهم جداً أن نذكر تفاعل أو ردة فعل  المؤسسة الدينية في النجف الاشرف معها ومنها، بما أمكن من موضوعية، لاسيما ونحن نتحدث عن دور التشيع السياسي داخل العراق المدني بطبيعته التاريخية .

المشهد السادس: علاقة المرجعية الدينية بثورة تشرين

    قد يلمح القارئ والمتابع  الفجوة المسكوت عنها بين مرجعية النجف الأشرف، وبين المرجعية الدينية السياسية لولي الفقيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية،  فمن الصعوبة بمكان ذكر جميع التفاصيل والفروق الفكرية والمنهجية بين هاتين المرجعيتين؛ لذا  فإننا سنكتفي بذكر الأهم منها في هذا المشهد كمقدمة لفهم علاقة المرجعية بثورة الشعب العراقي في تشرين.

     يعود أصل الفجوة والخلاف، إلى مبنى فقهي مأخوذ من الروايات الواضحة الصريحة المعتبرة في حرمة قيام دولة إسلامية، قبل ظهور الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية (المهدي بن محمد بن الحسن العسكري)، تلك الروايات التي تقول بأنّ “كل راية ترفع قبل راية القائم (عليه السلام) صاحبها طاغوت”([1]) وهذا هو الأساس الذي التزم به واعتمده عموم فقهاء وعلماء التشيع من القرن الرابع الهجري تقريباً إلى يوم الناس هذا، على سبيل المثال الشيخ النائيني الذي يعد المنظر الفقهي والمدني الأبرز للحركة الدستورية في الحوزة العلمية – الشيعية حيث تعد رسالته الفقهية من أوائل الرسائل العلمية والفقهية التي أثبت فيها مشروعية الحركة الدستورية([2])، وإن ظهر في سماء التشيع من قال بخلافذلك، وقالبجواز قيام دولة إسلامية، وأنّ قيام الدولة الإسلامية وقيادة المجتهد الفقيه (ولي الفقيه)  يكون جائزاً باعتباره ممهّداً لدولة الإمام (المهدي المنتظر).

    لو تجاوزنا الحذر قليلاً، أمكننا القول بأن المرجعيات الشيعية الأصولية كانت تبتعد عن البلاط والقصور الحاكمة والسياسة بشكل عام إلى حد القطيعة أحياناً، وكان ذلك ديدنهم ولعله نابع من التزامهم بسيرة أئمتهم في العهد العباسي، الذين لم يتدخلوا بالشأن السياسي مطلقاً  ( باستثناء الإمام الرضا الذي أُجبر على ولاية عهد المأمون كما يذكر تاريخ التشيع ذلك).

       من هنا وبعد هذه المقدمة، يمكن أن نفهم أن تلك الفجوة التي وقعت بين مرجعية النجف الأشرف، وبين المرجعيات الإيرانية المتمثلة (بالولي الفقيه)، وبالتالي فإن السيد السيستاني، ينظر إلى الدولة العراقية وفق رؤية فقهية مغايرة لنظرية ولاية الفقيه، وأن الرؤية التي يتبناها بالنسبة للدولة العراقية لا يستهدف منها بناء دولة شيعية بالمعنى الآيدولوجي، فلو تأملنا مواقفه التي ظهرت بعد 2003 سنرى أنها تعكس قناعته ببناء دولة مدنية لكل العراقيين، بمعنى أنها تكون دولة للجميع، ويشارك فيها الجميع على قدر المساواة والكفاءة، فهو يدعو إلى بناء دولة مدنية تشترك جميع أطياف الشعب العراقي في تكوينها وإدارتها، إن ما نود التعرف عليه في هذه الدراسة، هو هذه التجربة التي لها رؤية فقهية مختلفة عن رؤية ولاية الفقيه([3])، فعدم وجود علاقات وطيدة أو جيدة، أو إسناد سياسي من قبل مرجعية النجف للمواقف الإيرانية السياسية تجاه العراق أو المنطقة أو أمريكا أو العالم، يكون هو السبب الأهم، الذي يمكن أن نفهم من خلاله دعم مرجعية النجف الأشرف لثورة تشرين العراقية،  ونفهم نقمتها على هذه الأحزاب التي تمثل التشيع السياسي وعمقه الإيراني الواضح، وبعد كل الاعتراضات التي سجلتها المرجعية على حكومة الأحزاب وفسادها من خلال خطب الجمعة الصريحة في اتهامهم بالفشل والفساد وطلب التغيير في الشخوص والمنهج، وبعد أن أمتنعت من لقائهم ومقابلتهم  تحت أية ذريعةٍ يمكن أن تُوهِم الشعب بها أنهم يتحركون تحت غطاء المرجعية ومباركتها، أخذت تؤكد بشكل واضح وجلي في خطب الجمعة على رفضها للتدخل الإقليمي، مما لاشك فيه كان التلميح للتدخل الإيراني في السياسة والشأن العراقي واضحا وضوحاً لا يختلف فيه اثنان، تلك الخطب التي تعبّر عن مواقف المرجعية للسيد علي السيستاني بشكل خاص.

    كما أنها أكدت مراراً وتكراراً، على وحشية تعامل النظام القائم والقوات الأمنية غير النظامية وغير المدربة على مثل هذه الأحداث، إبّان الثورة واستخدام العنف المفرط في حق المتظاهرين العزّل والسلميين، هذا وقد أوصلت رسائل عديدة حاولت فيها عزل القوات المسلحة التي تنتمي إليها (أو التي تُعلِن  انتماءها وارتباطها بالمرجعية  بشكل مباشر دون غيرها من المرجعيات وهي المعروفة بحشد العتبات المقدسة) عن باقي تشكيلات الحشد الشعبي، الذي ينقسم بشكل ظاهر إلى سرايا السلام التابع للتيار الصدري وبين بقية الفصائل التي تأتمر بأمر قياداتها الخاصة التي تأخذ بدورها أوامرها وتوجيهاتها ودعمها من الحرس الثوري الإيراني وولي الفقيه في الجمهورية الإسلامية وتعتقد بها كمرجعية سياسية ودينية.

     نحن هنا لسنا في مقام التعظيم والتقديس لمرجعية النجف الأشرف، أو الطعن بالمرجعية الإيرانية والحرس الثوري أو الفصائل التابعة لها، بل جلّ همّنا هو فهم مواقف هذه الأطراف تجاه ثورة الشعب العراقي، أما لو كنّا في مقام  النقد والتقييم، فلعلّ النقد يطال الجميع بحسب المواقف لو تناولنا كُلًّا من هذه الأطراف على حدة في مواضيع مستقلة ومفصّلة، أمّا هنا فالإنصاف يستدعي أن نقول أن الناصر الحقيقي والسند الأقوى في العراق وخارجه  لهذه الثورة التشرينية المباركة، هي مرجعية النجف الاشرف، التي تجاوزت هويتها القومية والضغوطات المذهبية، وانتصرت للثورة العراقية المدنية التي كانت ناقمة على أحزاب السلطة المتلبّسة بلباس المذهب والدين، وعلى عمقهم الثوري في الجمهورية الإسلامية في إيران وعلى ولي الفقيه وحرسه الثوري بشكل واضحٍ وصريحٍ، لا يمكن المداهنة فيه ولا المجاملة والتزويق، حيث وقفت المرجعية مع ذلك كله مع أبناء الوطن وهي شاهد معهم على عِظَمِ الفساد السياسي والإقتصادي والإجتماعي والأخلاقي الذي مارسته هذه الاحزاب السلطوية على هذا الشعب الذي توسم بهذه الأحزاب كلَّ خيرٍ بعد ذاك الطاغية الأثيم، فما راعه إلاّ أنه استبدل مجرماً بمجرمٍ وفاسداً بفاسدٍ.

 الإسلام السياسي فكرٌ له منهجية كنتُ بينتها في بحث سابق بعنوان (الإسلام السياسي)، وله نظرة سلبية للمسلمين الذين لا ينتمون إليه ولا يعتقدون بأفكاره  الإسلامية، وقد قام بتجهيل كل المسلمين، وكونهم يعيشون جاهلية أسوأ من جاهلية قريش قبل الإسلام كما جاء ذلك في كتابات سيد قطب وأنّ جماعة الإخوان المسلمين هم فقط المسلمون الحقيقيون؛ لأنهم هم لا غيرهم من  يرفض الدولة مدنية أو علمانية – وإن روّجوا لاحقاً بأنهم مع الدولة المدنية وأن دولتهم مدنية .

     في حقيقة الأمر إن التشيع السياسي هو النسخة الشيعية من إخوان المسلمين السلفية السنية، وإن كانت أقل تطرفاً على النحو النظري والعملي  وكذلك الأدبيات الخاصة به، فهو وإن لم يكن يعتقد بكفر المسلمين ومن لم ينْتمِ إليه، لكنه لا يمتنع من تأييد ودعم ومشاركة جماعة الإخوان في مشاريعها، وفي منهجيتها وأساليبها في أدلجة المجتمعات وتحشيدها ضد التيارات المدنية  والعلمانية التي تطمح إلى الدولة المدنية والديمقراطية، فهذا الفكر (الإسلام السياسي والتشيع السياسي)، اعتمد في تجهيل المجتمعات على فكرة (المؤامرة) والعدو الذي يتربص الدوائر بالإسلام وبالتشيع كي يمحوه ويقضي عليه في أي فرصة تتاح له. فتعاملوا مع كل من طالب بالحكم العلماني المدني كعدو للإسلام  أو للتشيّع.

     ينبغي الإعتراف هنا أن تلك التيارات السياسية الدينية نجحت إلى حد كبير في ترسيخ هذه الفكرة لدى الأجيال السابقة، وأعداد قليلة جداً من هذا الجيل المعاصر، فأصبح من الصعب على المرء التصريح بالعلمانية، بعد أن صوّرها الإسلام السياسي على أنها مفهوم كُفري، وأنها في حقيقتها إعلانٌ غير مباشر لهدم الدين والشريعة، وأنها انفلات من الدين والقيم والأخلاق وهي من مشاريع الغرب الكافر.

     إن ما جعل هذه الأفكار بالية وسخيفة  ومدعاة للاستهزاء والتندر على مدّعيها اليوم هو حكومة تلك التيارات نفسها وتصدرها المشهد السياسي واعتلاؤها سدّة الحكم في بعض بلدان المنطقة  كإيران ومصر والسودان والعراق، فحينما نظر الشعب إلى مقدار الفساد والفشل والدكتاتورية والتشبث بالسلطة وما ينتج عنها من عنف وقتل وقمع للشعوب، أخذ ينقلب على كل أفكار وخطاب هذا الإسلام السياسي الحاكم، إنه لا يؤمن بكل ما كان يؤمن به آباؤه وأجداده من الجيل السابق، وأصبح يمثل دور المعارض لأفكار هذا النظام السياسي تلقائياً دون تنظيمات وأفكار مكتوبة وحلقات منظمة، فأخذ الشاب العراقي يتبنى فكر العلمانية والدولة المدنية بعد أن اطّلع عليه بشكل مباشر عن طريق العولمة، وأصبح يقارن بينه وبين صديقه في الجامعات والمدارس الغربية، ذلك الصديق الذي يلتقي معه كل يوم على الحاسوب والهاتف النقال ويطمح بما لصاحبه من مستوى ثقافي أو ترفيهي أو حرية أو شجاعة في النقد والكلمة، واستقلالية شخصية.

     من هنا كانت أفكار المؤامرة لا تثير فيه إلا الاستهزاء والضحك أو التقزز أحياناً، ويعد هذا السبب هو الأهم في محاربة أحزاب التشيع السياسية في العراق التي تدعمها الجمهورية الإسلامية في إيران بخطها المتشدد وحرسها الثوري في مواجهة ثورة تشرين العراقية المدنية، التي كانت تمثل الخطر الأكبر على وجود هذه الأحزاب وأفكارها وديكتاتوريتها، حيث حملت شعارات المدنية والحرية والمطالبة باستعادة الوطن من هذه العصابات والشراذم الغريبة عن العراق ومدنيّته وحضارته،  فأخذت الثورة والجيل الواعي الجديد تهدد كل أفكار هذه الأحزاب ومن يقف وراءهم من دول ومنظّمات تعادي المدنية والعلمانية والحرية بحجة الغرب والاستعمار والمؤامرات، هذا كل ما كنا نريد أن نوضحه ونضع إصبعنا عليه في حقيقة الصراع بين التشيع السياسي والعراق المدني وما أفرزته ثورة تشرين من وعي وانتماء وطني ومدنية لا يمكن أن يتفق معها أو يحققها التشيع السياسي في العراق، كما لا يمكن أن يتفهمها الجيل السابق من أقراننا الذي تلبّس بأفكار الإسلام السياسي وأحزابه وانغمس بآديولوجيته وأفكاره.

انتهى

ماهر سلطان

2021


[1] ) ينظر: كتاب الكافي، للكليني،ج8، و كتاب الغيبة، للشيخ النعماني.

[2] ) ينظر: الرسالة الفقهية «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» للشيخ النائيني.

[3] ) ينظر: محمد المحفوظ، http://juhaina.net، 2 / 7 / 2017م – 6:00 ص

ماهر سلطان

ماهر سلطان .من مواليد ١٩٧٠ بغداد الكرخ كاتب وباحث غير متخصص في المجالات الانسانية من الاجتماع والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين‎‎.
زر الذهاب إلى الأعلى

Sign In

Register

Reset Password

Please enter your username or email address, you will receive a link to create a new password via email.