العراق المدني والتشيّع السياسي – ج3 – ماهر سلطان
الجزء الثالث
ثورة تشرين ج/1
إن الآيديولوجيات كلَها التي ذكرناها سابقا لم تكن لتظهر أو يطلع عليها الشعب لولا انبثاق ثورة تشرين العظيمة التي تحمل في طياتها معاناة شعب واضطهاده، وتحمل وعياً جديداً لجيلٍ جديدٍ كانت شريحة كبيرة منه تنتمي لمواليد الألفية الثانية وأواخر تسعينيات القرن الماضي حيث أن هذا الجيل لم يتأثر بظلم النظام السابق، ولم يشْهدْ ذلك العهد المظلم، ولا الحرب الطائفية ولا الإعلام الطائفي المتبادل، وضمت الثورة أيضا شريحةٌ أُخرى مشغولة بهمومها الحاضرة والمستقبلية دون أملٍ حقيقي في وجود أو إيجاد حلولٍ لها، فكانت اللغة والمنطق بين تلك الأحزاب الشيعية وفصائلها المسلحة، وبين الجيل الجديد لغة غير مفهومة، كانت هذه الحالة من عدم التفاهم كفيلة بخلق المسافة الشاسعة بين فكر الأحزاب وآيديولوجيتها الدينية، وبين الوعي الجديد الذي كان يحمله الشعب العراقي الفتي والشبابي الذي خرج عليهم في ساحات التظاهر المشروعة، بسلمية بريئة حاولت الأحزاب تشويهها لجعل الشارع العراقي يشجبها، مع أن الثورة كانت ردة فعل طبيعية لما حفّ بالثوار من ظلم واضطهاد وتهميش، خلال تسعة عشر عاما عجافا.
نحن هنا لا نريد أن نقع في السؤال الدوري والإشكالية المختلقة من أتباع التشيع السياسي، التي تريد بشكلٍ من الأشكال إسقاط الفشل والفساد والتخلف الذي ظهر في سلوكيات السلطة على الشعب العراقي، حيث تمّ الترويج لمغالطة: (فساد الحكومة نابع من فساد الشعب، وكيف ما تكونوا يولّى عليكم)، مع أن المسؤول بشكل رئيس ومباشر والقادر على بناء مجتمع صحي ومثقّف وواعٍ ومنظّم وحضاري، هو من كان يمتلك أسباب ذلك من التربية والتعليم والإعلام، والسلطة القضائية وتطبيق القانون على الجميع هو النظام الحاكم بأحزابه السياسية، تلك الأحزاب التي تملك إمكانيات ذلك كله وأهمها الأموال والمؤسسات الكفيلة بذلك لرفع مستوى الشعب إلى مصاف التحضّر إن كانت مهتمّة بذلك الأمر فعلا، لكنها لم تفعل بل ولم يكُ ذلك من اهتماماتها مطلقاً؛ لأنها انشغلت بالفساد والإفساد الذي أزكم الأنوف وألهب القلوب وعاد بالقهقرى بالشعب والوطن.
عملت الأحزاب على إفشال هذه الثورة عبر محورين، الأول القمع والثاني التسقيط.فبعد أكثر من ست عشرة سنة عجافٍ مُرّةٍ من حكم وتسلط الإسلام السياسي الشيعي وإيصال العراق إلى وضع تراجيدي سوداوي تم ذكره آنفا، قامت تظاهرات في أنحاء مختلفة من العراق لاسيما في العاصمة بغداد، احتجاجاً لما آل إليه الوضع في العراق مطالبةً بالتغيير، كانت تُقمع تلك المظاهرات والاحتجاجات أو تعوَّمُ وتُبتلع من قِبل فصيل من الإسلام السياسي يتسربل بمظهر الثوار والمحتجين، إلى أن كان الأول من تشرين لعام تسعة عشر بعد الألفين (1/10 / 2019 ) انطلاقة الثورة الشبابية الواعية.
مشاهد ثورة تشرين
تمخض عن ذلك مشاهد عدة أرتأيت أن أدونها؛ لعظمة وأهمية ما حدث، حيث يُعد انعطافة كبيرة في تاريخ العراق المعاصر:
المشهد الأول: الشرارة الأولى
انطلقت الشرارة الأولى لاحتجاجات تشرين التي تحولت إلى ثورة تشرين العظيمة بمبادئها ووعيها ومطالبها، بعد أن تمَّ محق كل المظاهرِ الحضاريةِ والمدنيةِ والإنسانيةِ في العراق حيث بدأت الإنتفاضة على إثر احتجاجات طلابية جامعية من خريجي الدراسات العليا ناشدت حكومة (عادل عبد المهدي) بتعيينات وظيفية مشروعة ومستحقّة وقد جوبهت برشاشات الماء التي تستعمل لإطفاء الحرائق، تفاعل المجتمع البغدادي المدني بشكل سريع مع هذه الاحتجاجات ليؤكد على استلاب الحكومات المتعاقبة لحقوق الشعب، وغياب القانون والعدالة وتسلّط الأحزاب الفاسدة دون وجه حق، ودون انتخابات شرعية نزيهة جرت عام ٢٠١٨م، في عهد حكومة (حيدر العبادي)، الذي أقرَّ تزويرها وعدم نزاهتها بنفسه عبر شاشة التلفزيون العراقي.
بعد وقت قياسي قصير، أخذت تتمركز هذه الاحتجاجات على شكل تظاهرات في ساحة التحرير وسط بغداد، وسرعان ما عمّت جميع المحافظات الجنوبية وبعض المحافظات الوسطى، بعبارة أخرى بغداد والمحافظات ذات الأغلبية الشيعيه، ثم أصبحت الإحتجاجات والتظاهرات غالبا ما تخيّم في الساحات الرئيسية للمدن والمحافظات المتظاهرة، كساحة الحبوبي في الناصرية، وساحة الساعة في الديوانية، وساحة الصدرين في النجف الاشرف، وساحة الأحرار في كربلاء، وكذا الأمر في البصرة، والسماوة، والكوت، والحلة، والعمارة، وبعض الأقضية والنواحي التابعة لهذه المحافظات، علماً أنّ أبناء المحافظات الثائرة برمّتهم كانت لهم مشاركة في الحراك الجماهيري من سكان المحافظة والأقضية والنواحي انتهاءً بالقرى والأرياف.
أما بقية المحافظات الشمالية والغربية وبعض من المحافظات الوسطى فلم تشهد ذلك الحراك؛ لأسباب مختلفة وتبريرات يضيق المقام بذكرها هنا.
تنبّهت الأحزاب الحاكمة (التشيع السياسي) لخطورة هذه التظاهرات، واستشعرت الخوف والرهبة الحقيقية لوجودها الذي كان مرهونا بصمت الشعب وجهلهِ، ذلك الجهلُ الذي كانت تراهن عليه وتسعى جاهدة في ترسيخه وتعميقه عن طريق استخدام النَّفَس الطائفي والعاطفي، وخلط الأوراق والتَّلبُّس بالدين والمذهب العلوي، لكي تضمن إخراس الأفواه وقطع الألسن في الوسط والجنوب العراقي (الشيعي) بشكل خاص، لأسباب منها:
- تلتقي معه في العقيدة والمذهب.
- 2) يشكّل الغالبية من سكان العراق .
- 3) من حيث الظلم الأكبر الذي وقع عليها خلال كل تلك السنين الخوالي التي تمتد لقرون بدءا من حكم صدام (باستثناء بعض الفترات القصيرة من العراق المعاصر) وإيغالاً بالفترة العثمانية، ووصولا إلى الخلافة العباسية والأموية، التي لم تحاول حكومات التشيع السياسي النهوض بواقع تلك المناطق في الجنوب، بل زادتها تُعساً وظليمةً وبؤساً.
لكنها تفاجئت بهذا الوعي الشبابي المدني من تلك الأوساط نفسها؛ ليقول لهم إنّ الدّين والمذهب منكم ومن فسادكم وظلمكم براءٌ براء.
المشهد الثاني : التصدي المسلح للثورة
كانت اللحظة الثانية من تظاهرات تشرين، تتمثل بجموع المتظاهرين السلميين الذين يحملون أعلاماً عراقية وهتافات مختلفة، بين المطالبة بتعيين أو تحقيق العدالة أو محاكمة وفضح لشخصيات وأحزاب سياسية، أو مطالبة بوطن حيث رفع شعار (انريد وطن)، نريد وطنا.
على الجهة الأخرى، كانت تصطفُّ الأجهزة الأمنية المختلفة، من جهاز مكافحة الشغب أو الشرطة الإتحادية أو قوات حفظ النظام أو مجموعات (ملثّمة) سوداء القمصان (الفانلّات) مُرقّطة البنطالِ (البنطرون) كلهم مسلّحون، يتبخترون بسلاحهم كأبطال الأفلام الأمريكية وعصابات المافيا الإيطالية على أبناء جلدتهم .
سقط أبناء العراق في تلك الاحتجاجات السلمية المشروعة على أرضهم مضجرين بدمائهم، فالإصابات كانت في رؤوسهم ورقابهم حيث استعملت قنابل خارقة للجسم تحت مسمى القنابل المسيلة للدموع، سقطوا واحداً تلو الآخر بالرصاص الحي وبقنابل الغاز التي استقرت في جماجمهم وعيونهم وصدورهم، صبيانا وفتية وشوابا([1])، ذلك كله التقطته عدسات الهواتف النقالة حيث نقلت للعالم أبشع المشاهد في قتل العراقيين الثائرين حتى أصبح القتل يزداد كل يوم وبشكل أفظع، استهتر القاتل بدمائهم وأرواحهم بعد أن أيقن أن الحساب والعقاب والقضاء والعدل والقانون كلها معطّلةٌ بأمر من الأحزاب (التشيع السياسي) وقياداتها ومن القائد العام للقوات المسلحة، وما حصل في مجزرة الناصرية وجسر الزيتون، تشيب له الولدان والرضع، إذ سقط من أبناء الناصرية (ناصرية الرجال والثورة والعزّ والشرف والبطولة) شهداء بعمر الورد والرياحين وتجاوزت أعداد الشهداء فيها السبعين شهيداً في بضع ساعات.
هذا وقد كانت ماكنة القتل والذبح والإغتيالات لشباب العراق وشوابّه تسير في كل مدن الوسط والجنوب، بلا ضمير ولا رحمة ولا حسيب أو رقيب، من البصرة والعمارة إلى النجف وكربلاء مرورا بالديوانية والحلة والسماوة والكوت. كي لا ننجرُّ إلى الخطابِ العاطفي والإنشاء نكتفي بذلك لننتقلَ إلى المشهدِ الثالثِ من الثورة.
المشهد الثالث: محاولات التسقيط
إن عِظم الفاجعة التي تفاعل معها السواد الأعظم من العراقيين (باستثناء مَن حمل همّ الإسلام السياسي والتشيع السياسي وآيديولوجيته على عاتقه، كقضيةٍ عليا يجب الحفاظ عليه بأي ثمن ممكن) تفاعل معها المجتمع الدولي برمّته، ولكن دون حراكٍ حقيقيٍ أو نتيجةٍ ملموسة يمكن أن تنصف الدم العراقي البريء وتنتصر له عمليّاً.
إن ذلك كله دعا الأحزاب الحاكمة إلى تفعيل أُسلوبٍ جديدٍ قديم، تتَّخذُه الأجهزة الاستخباراتية والمخابراتية في دول العالم، لاسيما في الشرق والشرق الأوسط منه، وهو عبارة عن زج أفرادٍ وجماعاتٍ بشرية تابعة لها، في أوساط الثوار والمتظاهرين؛ ليقوموا بوظائفَ عدة، محاولين بها تفكيك الثورة وإفشالها، من خلال تثبيط عزائم الثوار والمحتجّين، وإحداث انشقاقات بين الثوار، أو ممارسة بعض السلوكيات التي لا تمت إلى الثورة ومطالبها بصلة، بل تعمل على تشويه صورة الثورة والثوار في نظر المجتمع المحلي والمجتمع الدولي إن أمكن، كحرق المباني والمؤسسات، والقتل (كما حدث في جريمة الوثبة) والممارسات الفاسدة المرفوضة من قبل المجتمع العراقي، كالرقص واختلاط الجنسين بشكل يتنافى مع الأعراف المحلية، وتناول الخمور ولعب القمار في مخيمات الاحتجاج؛ حيث تم اللجوء إلى هذه الممارسات المرفوضة مجتمعيا؛ لغرض اتهام الثوار بأنهم ينشدون الفساد والدعارة، وحاولت أيضا التقليل من شأن ذلك الشباب الواعد بأن أطلقت على انتفاضة تشرين اسم ثورة الجياع، كما حاولوا أن يعطوا صورة للشعب العراقي أن ممول الثورة هو نظام البعث السابق والمحتل الأمريكي عبر وسائل عدة كتوزيع الدولارات على الكسبة من الشباب الذين تطوعوا بمركباتهم البسيطة (التكتك) بحمل الجرحى والشهداء، وغيرها من الوسائل التي من شأنها تنفير الفرد العراقي من هذه الثورة.
كان هذا الأسلوب مدعوماً ومشفوعاً بماكنةٍ إعلامية كبيرة وذبابٍ إلكتروني هائل يعمل ليل نهار مقابل أموال الفساد التي كانت تُكنز في بيوت الساسة والقادة والزعماء والأرصدة العراقية والإقليمية والدولية.
ولكنهذا لا يعني أن التظاهرات لم يكن فيها أفرادٌ مجرمون أو مندسون من غير قوى الأحزاب الحاكمة، لكننا نقطع بوجود مثل تلك الأفراد وبعض التمويلات المشبوهة التي لم تخدم الثورة ولا العراق في نهاية المطاف، وأود أن أبيّن أنّ اعتراضنا وإشكالنا ونقدنا كان لاتهام الثورة برمّتها بالعمالة والشيطنة والجوكرية والإندساس، من خلال التركيز الإعلامي والإلكتروني على ذلك لتشويه الثورة وضَربها.
المشهد الرابع: كشف اللثام
استطاعت ثورة تشرين العظيمة حل اللّغز والتعرف على قتلة الثوار وتسجيل اتهاماتها قضائياً عبر الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي، حيث لم تؤمن للحظة واحدة بخديعة ومهزلة الطرف الثالث التي روّج لها الإعلام الحزبي الرخيص، فالقتلة كانوا أمامهم بأسلحتهم ولثامهم فوق البنايات الحكومية مع قنّاصاتهم (التي نسبوها للمكوّن الكردي للتملص من الجريمة)، ولم يأتوا من المريخ لأداء هذه المهمة المقدّسة من قتل الثوار والعودة إلى ساحة القدس المرّيخي الشريف.
كل ذلك لم يُجدِ نفعاً في محاسبة القتلة أو حتى الكشف عن هوياتهم رسمياً، فقد تشكلت لجانٌ بعد لجانٍ بعد لجانٍ، للكشف عن قتلة المتظاهرين، وبقي الحال على ما هو عليه من ضياعٍ للحقوقِ وللدماءِ، فـ ياِلله! ويالَـظلم! والهضم الذي مُنيَ به العراقيون من أبٍ وأمٍّ وأخٍ وأُختٍ ويتيمٍ وحبيبةٍ، خرج عزيزهم للمطالبة بوطن فسُفِكَ دَمُهُ، وضاع الوطن.
يتبع…
ماهر سلطان
2021
[1] ) جمع شابة، إشارة إلى مشاركة المرأة التي تم المساس بسمعتها والتشهير بها كأداة تسقيطية للتيارات المناهضة.