العراق المدني والتشيع السياسي – ج2- ماهر سلطان
الجزء الثاني
الدور الإيراني في العراق
لابد لنا من الحديث بشيء من التحليل والتفكيك عن الدور الإيراني في العراق، وهذه وجهة نظر شخصية يترتب عليها تحليل قابل للحوار والنقاش؛ لأنني أجد نفسي مرغماً عند الحديث عن التشيّع السياسي في العراق، في التطرق إلى ذكر الجمهورية الإسلامية الإيرانية بما تمثله هذه الدولة الجارة للعراق، التي تفاعلت بثقافتها ومواقفها وسياستها واعتقادات شعبها مع العراق، منذ ثلاثة آلاف سنة وربما أكثر، لكن ما يهمنا بالفعل من هذه الحقبة الزمنية المعاصرة، هو الارتباط المذهبي والعقدي والسياسي الذي تكوّن بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين الوسط والجنوب الشيعي منه على وجه الخصوص.
في البدء علينا أن ندرك ونفرّق بين دولتين أو خطّين وتوجُّهين سياسيَّينِ يتصارعان في الجمهورية الإسلامية، ألا وهما خط الثورة المتمثل في الحرس الثوري التابع تصنيفاً للخط المتشدّد أو المحافظ، وخط الدولة الرسمية المعتدل والمنفتح، فإيران الثورة والحرس الثوري بنظرة دقيقة، ليست سوى دولة عميقة داخل إيران الدولة الرسمية المدنية، وهذا النظام المتشدد الثوري الذي يمثله خط الحرس الثوري هو التجربة التي تمخّضت عن فكرة ولاية الفقيه والطاعة العمياء له.
يعد الحرس الثوري الإبن الشرعي الأصيل لدولة ولي الفقيه، وأنا إذ أقدّم هذه المقدمة، فإني أسعى إلى فهم وتفكيك الدور الإيراني في العراق، ولست في معرض تقييم الحرس الثوري أو فكرة ولاية الفقيه إلا من بابِ أثرها السَّلبي أو الإيجابي بالنسبة للعراق، أما نجاح التجربة في حد ذاتها في بلدٍ من البلدانِ، فذلك يظهر وينعكس في مستويات عدة في ذلك البلد، بالقياس إلى ظروفه الثقافية والإقتصادية والسياسية وانسجام الشعوب مع تلك التجربة، وهي التي تقيّم نجاحها أو فشلها.
لقد استطاع الخط الثوري في إيران أن يختطفَ الدولة الرسمية في نهاية المطاف في السنوات الأخيرة، وإن كان طيلة الحكم الإسلامي في إيران يعزز من قدراته ويُحكِمُ من نفوذه على مفاصل الدولة والقرار بلا هوادةٍ وبكل جديّةٍ ومثابرة، وما هذه الفترة والسنوات الأخيرة إلا نتاج ذلك العمل والتوغل والتوسع .
لابد من التنويه إلى أن هناك قانونا تاريخيا سياسيا لا يشذ ولا يختلف ولا يتخلّف، فحواه أنّك إذا أردت أن تكون مقدساً أو عظيماً أو في الصدارة للمجموعة أو لمجتمع ما فعليك أن تقاتلَ عدواً واضحاً لعموم ذلك المجتمع، وكلما كان ذلك العدو أكثر شراسةً وكانت تضحياتك أكبر فداحةً، كلما ضَمِنْتَ قداستِكَ وعظمتك بشكل أكبر ولفترةٍ أطول في ذلك المجتمع، مع ملاحظة أن هذا القانون الذي ذكرناه نابع من استقراءٍ شخصيٍ ناقصٍ للتاريخ، ومن رصد تفاعل الجماعات والشعوب معه وليس قانونا مقتبساً من كتب العلوم السياسية المختصة بهذا المجال .
لقد ترعرع هذا التشكيل العسكري الثوري في حرب الدفاع المقدس (كما تُسمّيها إيران) مع العراق، وقد قدّم هذا الخط الثوري في تلك الحرب خيرة الرجال وأشجع الفدائيين، فضلا عن تضحيات جمّةٍ وكبيرةٍ حتى استعادت إيرانُ أراضيها التي سيطر عليها الجيش العراقي آنذاك، وخلال الأعوام الثمانية من تلك الحرب استطاع الحرس الثوري أن يقوم بتطوير نفسه على مستويات عديدة وكبيرة، حتى أنه كان يمثل بحقٍ صمامَ الأمانِ للجمهورية الإسلامية الإيرانية وللثورة الإسلامية الفتيّة آنذاك. وعلى ذلك كان هذا التشكيل العسكري المؤمن بالثورة أشد الإيمان، والمضحي لها ولحربها المقدسة بأغلى التضحيات، هو الأقرب إلى نفوس الناس وإلى السلطة الدينية الحاكمة في إيران ومصدر ثقة الجميع.
لعلنا لا نشطُّ بعيداً إذا قلنا أن مشروع الحرس الثوري هو المشروع الذي حاولت إيران تصديره في المنطقة، وهو بعينه مشروع الدولة العميقة والدولة داخل الدولة كما عبّرنا عنه في بداية الكلام، وما جاء هنا استنتاجنا إلا من خلال رصد ومتابعة المنهجية المتمثلة في البلدان التي حاولت الجمهورية الإسلامية مساعدتها أو إنقاذها من سيطرة المحتل أو الدكتاتور (بحسب الأقوال والتصريحات الإيرانية).
فلو نظرنا إلى حزب الله اللبناني لوجدناه قد دخل في حرب عادلة ومقدسة ضد الإحتلال الإسرائيلي وهو العدو المكروه للإسلام والعرب ولشعوب المنطقة بشكل عام، كما لا يمكن أن تُنكَرُ تضحيات وبسالة أفراد حزب الله اللبناني بحال من الأحوال وتفاعل كل الشعب اللبناني والعربي وغيرهم معه في انتصاره المؤزّر على الكيان الصهيوني الغاصب والمجرم، لكن هذا الحزب سيطر على الدولة اللبنانية في نهاية المطاف وسلب قرارها وأصبح الحارس المسلح على دولة خاوية لا تحتاج إلى حارس، وكان ثمن الدفاع عن الدولة هو الدولةُ نفسُها.
وأما لو تحدثنا عن حركة حماس الفلسطينية، أو فصائل الحوثي اليمنية فإننا قد نتجاوز على أصحاب القضية أنفسهم ونجحف دون حق ، لاسيما وهم يعانون أشد المعاناة والظلم ويُقمعون أشد القمع في هذه الأيام من الكيان الصهيوني الغاصب ومن المجرم السعودي وحلفائه، مع كثرة التعقيد في المشهد الفلسطيني الذي تراكمت فيه الأحداث وأسبابها وتفاعل الفلسطيني معها كما استوضحنا ذلك كله من الأستاذ والأخ المحترم (يوسف الريماوي) .
تجربة الدولة العميقة
من هنا أرتأينا أن نراقب تجربة الحرس الثوري والدولة العميقة في العراق بعد الإحتلال الأمريكي الذي قدمنا له آنفا. بعد الإنتصار العظيم الذي حققته قواتنا المسلحة بشتى صنوفها من جيشٍ (تم حلّه في ٢٠٠٣ من المحتل الأمريكي ومن ثمّ إضعافه هيكليّاً وعدم بنائه بالشّكل المعهود) وشرطة اتحادية، وجهاز مكافحة الإرهاب، وحشد شعبي فدائي (غير متدرب بشكل كامل) وحشد عشائري (متواضع) وقوات البيشمرگة الكردية وفصائل متفرقة من أطياف الشعب العراقي ودعم لوجستي واستخباراتي وغطاءٍ جوي من قبل دول التحالف الدولي الذي استدعاهم العراق إبّأن تلك الحرب، تم التركيز إعلاميا على الحشد الشعبي وأخذت تنتشر مقاطع حركاتهم وقتالهم وتضحياتهم ودخولهم في المدن وبسالتهم بشكل أكبر بكثير من بقية القطعات العسكرية المشاركة في النصر، ولم يرَ الشعب العراقي بأساً أو غضاضة في ذلك التركيز الإعلامي على الحشد، الذي خرج لوحدهِ مقدساً من بين كل تلك القوات الأمنية الاخرى.
يمكن أن نبرر لذلك الأمر، على أنّ الحشد تشكّل وانطلق للوجود إثر فتوى دينية من مرجعية النجف الأشرف، وطبيعة المجتمع تضفي صفة القداسة على مثل تلك المتعلقات والأماكن والأزمان المرتبطة بالدين لاسيما مع تلك الأنفس البريئة التي سقطت بشكل كبير من قوات الحشد الشعبي العراقي العظيم. لقد قدّس العراقيون هذا الحشد وتضحياته وهو يرى صورهم في كل مكان من العراق بين أبٍ ٍ وابنٍ وأخٍ وقريبٍ وصديقٍ وزميلٍ وجارٍ، وكان العراقي يعلم بحقيقة بعض القادة لهذا الحشد (والفصائل المُشكِّلة له) ومدى فسادهم وتغولهم لأموال الدولة العراقية أمثال هادي العامري (قادة فصائل البدريين) وفالح الفياض ومقتدى الصدر وقيس الخزعلي وغيرهم. إلا أن هذا الشعب تغاضى عن ذلك كله؛ لتفاعله مع تلك الحرب المقدسة ومع قواعد الحشد الشعبي التي تشكلت من بيوتهم أولاً، ولأنها كانت في حالة استرداد العراق من أيدي تلك العصابات القذرة (داعش).
عوامل سخط الشعب العراقي
لقد استطاع التشيع السياسي المتمثل بالأحزاب الحاكمة وبفصائلها المسلحة، التي تتمرس باسم الحشد الشعبي (المحبوب والمقدس من غالبية العراقيين)، وبالجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تقف وراءهم سنداً وحامياً ومخططاً، بل ومحرّكاً لعموم المشهد العراقي وصراعات أطرافه السياسية، وأخذ العراقي ينتبه إلى واقعهِ المزري بعد أعوام الطائفية والمفخخات والحرب المقدسة مع التنظيم الإجرامي (داعش)، ويشهد أغرب وأسوء أنواع الفساد المنظّم والعشوائي، لم يشهد له لا التاريخ ولا الجغرافية شبيها، إذ تمثّل بالنهب والسرقة والرِشى وبيع المناصب وبيع الوطن، وشراء الذمم، والمحسوبيات الحزبية وتشكيل اللجان الاقتصادية للأحزاب والفصائل، واستحداث لجان للمراقبة والنزاهة تمعن وتعمق في الفساد وتمنحه الشرعية، ومع الظلم والقهر والسلب والحرمان للشعب العراقي، مع كل التوثيقات المصوّرةِ للإضطهاد، ولتلك الممارسات الفاسدة التي أنهكت الفرد العراقي والدولة العراقية على المستويات كلها، من تعليمٍ وصحة واقتصاد وأمن وسلم مجتمعي وعدالةٍ إجتماعية وفنون ورياضة وحقوق وصحافة وإعلام ومنافذ حدودية، وسطوة عشائرية وقَبَليّة متخلّفة، حيثُ ضَربَ الفساد بأطنابه كل مفاصل الدولة العراقية بأبشعِ صوره، حتى طالَ القضاء العراقي، فخرج علينا (هادي العامري) ليقول معتذراً للشعب العراقي إنهم أفسدوا في كل شيء حتى في الضغط على القضاء العراقي لأجل مصالحهم الحزبية والشخصية .
أدركَ العراقيون أنهم في حرب جديدة ومواجهة عنيفة شرسة مع رعاة الفساد العراقي، المتمثلين بالطبقة السياسية العراقية بشكل عام، وأكدت المرجعية الدينية في النجف الاشرف على هذه الحقيقة في إحدى خطبها؛ ليستعد لها المواطن ويرفضها، ويواجهها بكل وعي وشدّة، وانتابت الشعب حالات من الندم والأسى لاختياراتهم هذه الطبقة السياسية التي تلبّست بلباس الدين والمذهب والانتماء إلى الحشد المقدس.
لم تحاول الأحزاب السياسية التي باتت مفضوحة لدى الشعب أن تصلح من الأوضاع ومظاهر الفساد الذي لم يكن بمقدور أحدٍ السيطرة عليه، ونقمة الشعب مما قد لحقه من هذه الأحزاب بلغت أوْجها وذُرْوَتها، لاسيما على الأحزاب والطبقة السياسية الشيعية منها (التشيع السياسي) باعتبارهم يشكلون رأس الحربة في السلطة التشريعية والتنفيذية، من خلال رئاسة الوزراء وأعضاء البرلمان العراقي، وهذا هو العامل الرئيس في نظري الذي جعل الأوساط الشيعية تنقم على كل من له ارتباط أو نوع ارتباط بهذه الأحزاب أو دعم أو أي صلةٍ بها، لذلك أخذت النقمة تتوجه إلى إيران وقياداتها كمحصلة طبيعية، وإن كان على نوع من الاستحياء والتردد في بداية الأمر، وهذا التردد كان طبيعياً لما لإيران من صورة ذهنية عميقة في تمثيلها للتشيع الخالص الذي ينتمي إليه غالبية وسط وجنوب العراق بما كان لها من موقف مشرف وحاسم في حرب العراق المقدسة على داعش كما ذكرنا، حتى استدعت الأوضاع المأساوية التي جعلت من العراق مسرحاً لكل فساد وحروب سياسية داخلية وإقليمية، أن يخرج منتفضاً ثائراً على النظام السياسي برمّته في ( ثورة تشرين العظيمة ) التي كشفت نوايا تلك الأحزاب والميلشيات، وتشبثهم بالسلطة والمغانم وكشفت عن إجرامهم واستعدادهم لسحق الشعب عن طريق أذرعهم المسلحة التي كانت هي القوة التنفيذية لفسادهم على أرض الواقع، وغطاء إيراني بات مفضوحا هو الآخر عند عامة الشعب العراقي، فلا يكاد يُرى قراراً سيادياً واحداً في العراق لم يكن لإيران الثورة والحرس الثوري تدخّل فيه على نحو مباشر أو غيرَ مباشر، حتى في اختيار رئاسة الوزراء وأعضاء البرلمان ونتائج الانتخابات والعلاقات الدولية.
لا يمكن تصور أن هذه الأحزاب الحاكمة بما تحمله من فكرة آيديولوجية تستبطن أفضلية المسلم على غير المسلم والشيعي على غيره من المذاهب، والمؤدي للشعائر من الشيعة على غير الذي لا يؤديها، والمؤدي الشعائر ومؤمن بالتشييع السياسي على المؤدي للشعائر الشيعية لكن غير مؤمن بالتشييع السياسي، بأنها يمكن أن تتعامل بشكل مدني وديمقراطي يؤمن بالمساواة بين جميع الشعب بالحقوق والواجبات، أو أن تكون مستعدة لتسليم السلطة بشكل سلمي إلى الآخر السني أو المسيحي أو العلماني أو الكردي أو أي آخر عراقي لا يحمل هويتها الخاصة (أن يؤمن بالتشيع السياسي الذي يحكم البلاد حصراً دون غيره)، وخير مؤيّدٍ لتصوّري هذا هو شرعنة المحاصصة المقيتة التي جاءت بها أمريكا وصفّقت لها هذه الأحزاب المعتوهة، فالحالة في حقيقتها ضرب وهدم لحقيقة الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية والمواطنة ومبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب بغض النّظر عن أي انتماءٍ دينيٍ أو عرقيٍ أو آيديولوجي.
يتبع…
ماهر سلطان2021