الإسلام السياسي – ج1 – ماهر سلطان
الجزء الأول
ما الفرق بين مصطلح الإسلام السياسي وبين الإسلام؟
سيكون هذا السؤال محورا لهذا البحث المتواضع حول قضية الإسلام السياسي، الذي إرتأيت أن يطرح بحلقات متدرجة بلغة بعيدة عن التقعر، ودون الإحالة إلى مصادر متنوعة تثقل القارئ فباستعمال اللغة المبسطة والمفردات الواضحة ستَسْهُل عملية التعرف على هذا المصطلح في نشأته الأولى وصلته التاريخية بالإسلام، والسياسة، وجغرافيته، ثم الوقوف على تمظهره وبزوغه في الدول الإسلامية، واستلهامه في العصر الحديث.
نشأة المصطلح
يُعدُّ مصطلح الإسلام السياسي من المصطلحات الحديثة التي ظهرت في بدايات القرن العشرين، بغض النظر عن أول من صاغه أو استعمله من الغرب، أو المستشرقين، أو الشيخ محمد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده(عبدو)، لكنه على أية حال ظهر في تلك الفترة، بعد أن أعلن مصطفى كمال أتاتورك، الدولة التركية العلمانية في الثالث من مارس عام ١٩٢٤م، الإعلان الذي يعدّ رصاصة الرحمة على نظام الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية التي كانت منهارة على كل حال بعد أن حكمت الدول العربية وغيرها في امبراطورية واسعة جدا على مدى أربعة قرون ونصف تقريبا، بأبشع أنواع الظلم، والجهل، والفساد تحت غطاء الدين والإسلام، والخلافة الإسلامية المزعومة .
جذور المصطلح
لو خرجنا من حيز مصطلح (الإسلام السياسي) ونظرنا إليه كممارسة عملية، فهو يرجع بالتأكيد إلى بزوغ أولى الحركات الإسلامية التي كان لها رأيًا في سياسة، أو حاكمية الإسلام على الأمة كما كان ذلك واضحا في حركة الخوارج التي لم ينتهِ الجدلُ حول حقيقة موقفها، ومبادئها، وظروف نشأتها، وانتشارها إلى يومنا هذا، ومراجعة كتب التاريخ، ورواياته الشفوية، وتفسيراته المتأخرة خير دليل وشاهد على ما نقول من استمرار الجدل واحتدامه في حركتهم.
أما ما يمكن أن يقال من أن الإسلام السياسي راجع في حقيقته إلى الممارسات السياسية التي قام بها النبي محمد (ص) في المدينة بعد أن أصبح الحاكم الأوحد عليها، وما تمخض عن ذلك من وضع صحيفة ومعاهدة المدينة – مع عدم وجود أي وثيقة تاريخية مخطوطة تعود لتلك الفترة قولا واحدا – بين المسلمين وغيرهم من اليهود أو ممن بقوا على الشرك أو الأديان الأخرى، فهو ممكن أيضاً ولا نشك فيه، لكن الكلام عنده سينجر إلى دائرة أخرى حاول ويحاول الإسلام السياسي الحديث أن يجد له مشروعية تاريخية عملية، أو نصيّة تبرر أصل وجوده وممارساته في ظل وجود أنظمة سياسية أخرى يحاول مزاحمتها، كالنظام الديمقراطي، أو الليبرالي، أو الاشتراكي، أو الشيوعي، أو الملفق منها، التي تستند بمجملها إلى الفكر العلماني القاضي بفصل وتحييد الدين عن السياسة التي تنتهجها الدولة الحديثة .
سرد تاريخي للدولة الدينية
علينا أن نوجه سؤالا مركبا لمن يعتقد بلزوم إقامة الدول الدينية، والأنظمة الإسلامية المشرَّعة من الله تعالى، والسؤال عينُه الذي حاولتْ جماعة الإخوان المسلمين الإجابة عنه وهي في بداية مشروعها الذي قام على أساس إعادة الخلافة الإسلامية بعد أن ألغاها مصطفى كمال أتاتورك، إذ فصل بينها وبين السلطنة التركية في بادئ الأمر ثم قام بإلغاء الخلافة بعد ذلك.
إذا كان السؤال هو سؤال المشروعية، وهل كانت الدولة النبوية الإسلامية دولة دينية أو دولة مدنية (غير دينية)؟ وهل كان النبي (ص) حاكما منَصّبا من الله تعالى في أمور الدين والدولة، والدين والدنيا أو هو مجرد رسول مبلِّغ تقع على عاتقه مسؤولية إدارة وسياسة المسلمين في المدينة؟.
ليس بإمكاننا أن نجيب هنا إجابات قطعية يقينية – كما اعتاد عليها بعضهم – ولكن سنحاول عرض التجربة النبوية في المدينة بشكل مختصر، ومن ثم نقوم بسردٍ تاريخيٍ لطبيعة الأنظمة والحكومات التي تعاقبت على حكم المسلمين وغيرهم في المنطقة العربية ومَن دخل في حيّزها بعد التوسع والإنتشار للإمبراطورية الإسلامية.
يُخبرنا التاريخ أن النبيَ محمدا (ص) كان يدعو إلى التوحيد طيلة عشر سنوات، كان فيها بين القرشيين في مكة، وكان فيها مستضعفا هو وأتباعُه، حيث كانوا كثيرا ما يلجأون إلى القبائل طلبا للحماية من تعصب قريش، وكانت الدعوة آنذاك ترتكز على عقيدة التوحيد، والإنذار والوعيد، والعقاب الأخروي، والساعة، والقارعة؛ تخويفا لقريش، وكان هنالك الترغيب للمسلمين بوعدهم بالجنة والنعيم، ولن تجد في السور المكية كلها أية إشارة أو دلالة لمفهوم الدولة والحكم.
قبل أن يتوجه النبي (ص) إلى المدينة حاول أن يبعث أتباعه إلى الحبشة للحماية، وخرج هو إلى الطائف، لم يجد من يتعهد بحمايته مع أتباعه لتبليغ هذا الدين والتزامه، حتى وجد الحماية التي كان ينشدها والتعهد في أهل يثرب (المدينة) بوساطة أهم قبائلها. عندها بدأت المعاهدة والحلف (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) {الفتح:18}، وكانت هذه البيعة بمثابة العقد الاجتماعي الذي تقوم به الحكومات مع شعوبها، وهي سياسة دنيوية، وفيها قالوا: نبايعك على أن نحميك بما نحمي به أولادنا ونساءنا، إذ كانت تلك مقاييس الحماية والعهد القبلي المتعارف عليه آنذاك.
إن هذه العوامل التي تُعَدُّ (إنسانية – تاريخية – قبلية) هي التي جعلت النبي محمدا يهاجر إلى المدينة, فالعقل السياسي الذي يتمتع به النبي (ص) كان حاضرا حين دخوله المدينة؛ لمواجهة مشاكلها، واختلاف طبائع سكانها، وقد خلقتْ هذه القضية تطورا حتى على مستوى الوحي وخطابه بين الفترتين المكية والمدنية من حيث اللغة، والإيقاع، والأسلوب، وموضوعات الآيات القرانية, من هنا يمكننا القول أن الوحي ظاهرة تاريخية، والظواهر التاريخية بطبيعة الحال تتطور بمرور التاريخ.
من الغريب أن احدا لم يتطرق في هذا الخلاف (بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة) إلى أمر- الدين- ! مما يثبت أنها كانت مسألة سياسية بحتة !، ولم يذكر أحد حينذاك أن الخلافة في قريش إلى يوم القيامة، حيث أن هذه الأحاديث اختلقت ووضعت في عهد الدولة العباسية.
إن مفهوم الدولة الدينية كما هو واضح من الشرح المتقدم ليس له وجود طيلة وجود الدولة الإسلامية بأشكالها المختلفة والمتعاقبة، ولم يدّعِه أحد إلا في بداية العهد الأموي؛ لأن أبا بكر كان خليفة رسول الله، ولما جاء عمر لم يعجبه هذا اللقب؛ لسببين أولهما؛ لأنه لم يتصور أن أحدا يمكنه أن يخلف رسول الله، والسبب والثاني؛ لأنه سيلقب بخليفة خليفة رسول الله. وماذا عن الذي سيأتي بعده هل سيلقب بخليفة خليفة خليفة رسول الله ؟ وماذا عن الذي بعده وبعده؟؛ لذلك سَمّى نفسه أمير المؤمنين، (والإمارة ) سلطة دنيوية وليست دينية كما هو معروف، وكلما نشأ أمر جديد فهنالك متصدون لحلّ العقد يبتون فيها، وحين يشيرون إلى سنّة النبي كانوا يقصدون فعل النبي لو كان في مثل هذه الحال والمقام وهو نوع من استلهام الزعيم السياسي الأول والقائد الرمز.
لعل أول من ادعى منصب الخلافة الإلهية أي إنه منصب إلهي -إن ثبتت الرواية تاريخياً- هو عثمان بن عفان، حين طلب منه المصريون أن يعزل أهله وذويه الذين فسدوا وأفسدوا في الدولة الإسلامية من بني أمية أو يخلع نفسه من الخلافة فقال قولته المشهورة : “ما كنت لأخلع قميصا قمّصنيه الله”، فكانت هذه المرة الأولى التي يدعي فيها حاكم أو خليفة إسلامي أنه منصّب من الله تعالى على طريقة الحكومة الثيوقراطية الدينية.
إن حقيقة الإسلام السياسي ومشروع الإخوان المسلمين كان عبارة عن إعادة الخلافة التي ألغاها أتاتورك واكتفى بالسلطان التركي الذي فصل بينه وبين الخليفة في بادئ الأمر، وعلى هذا تبيّن أن الخلافة منصبٌ سياسي ولم يكُ منصبا دينيا أبدا, إذ إن حياة الخلفاء مقرونة في الكتب بمجالس الخمر والرقص والغلمان ومجالس الشعر كأيّ بلاط ملكي، ولم يكن الخليفة يدّعي أنه خليفة الله، أو رسوله إلا في أوائل خلافة الأمويين الذين ادعوا فيها أنها جاءت بإرادة الله، وقالوا بنظرية القدر (بمعنى أن افعال الخلق مقدرة من قبل الله وهو مجبور عليها وعلى نتائجها)، ونظرية (قضاء الله السابق) التي ابتدعت في زمن المروانيين، ومن هنا نشأت المعتزلة للرد على هذه النظرية وأن الأمر بالاختيار لا بالجبر.
وعليه صح القول أن بداية مشكلة الدولة الدينية كانت مع إنهاء الخلافة الشكلية للدولة العثمانية، ولعل أكبر ضخ وشحن ورفد حَرَّكَهُ الإخوانُ والإسلام السياسي هو قيام دولة اسرائيل سنة 1948م؛ لأنها قامت على أساس ديني، وهي دولة اليهود كما عبر عنها الصهاينة آنذاك، وفي ذلك السياق نفسه قام المسلمون في الهند يطالبون بدولة للمسلمين مما تمخض عنه قيام باكستان سنة 1945م، ثم انشقت بنكلاديش من باكستان، ولو أننا لاحظنا الخطابات التي استعملتها ورفعتها الحكومات العربية وغيرها في الشرق فإننا سنراها كانت عبارة عن خطابات تراثية دينية منذ سنة 1969م، حتى تم تفسير انتصار اسرائيل عام 1967م على أن سببه كون اسرائيل دولة دينية وعقدية، في هذا السياق قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: إنه سجد لله شكرا؛ لأن مصر هُزِمت عام 1967؛ مبررا ذلك أن الدولة الدينية اليهودية غلبت الدولة الكافرة لجمال عبد الناصر.
تبع ذلك انتصار الثورة الإيرانية على الشاه عام 1979م, وانتشر هاجس فكري عام حتى من مفكرين تقدميين راحوا يراجعون أفكارهم، وجوَّزوا أن يكون الإسلام والخطاب الإسلامي أداة من أدوات الثورة.
نخلص من هذا السرد التاريخي، أنه لم تكن هنالك دولة دينية في الإسلام (وهذا ما سنعرض له بنحو أوسع لاحقا) بل كانت دول سياسية مدنية تحاول أن تجد لها مشروعية زائفة باسم الإسلام، وبتوظيف الرموز الدينية.
مفهوم الدولة الدينية المعاصر
إن المفهوم المعاصر للدولة الدينية الذي تريده الأحزاب الإسلامية هو مفهوم سياسي بحت، له تاريخ منذ بداية الحرب العالمية الأولى وحتى الآن -عام 2021-، حيث ساعدت الأنظمة السياسية في مصر والسودان والعراق، وأكثر الدول العربية في تقوية هذا الضخ وإيجاد هذا المناخ؛ لأن الدولَ العربيةَ كلَها إنما هي أنظمة لا مشروعية لها؛ كونها قامت إما بانقلاب عسكري، وإما بالوراثة، وهذان الأمران لا مشروعية عقلائية فيهما؛ لذلك جعلت الدول العربية -الفاقدة المشروعية- كلها مشروعيتها في الحكم عن طريق الدين، وهذا بالضبط ما قال به علي عبد الرزاق في كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم”، الرجل الذي تضافرت على محاربته واضطهاده حتى في رزقه الدولة آنذاك متمثلة بالملك فؤاد، مع الأزهر والأحزاب السياسية؛ لأنه سحب البساط من تحتهم، وقوض فكرة إمكانية خلافة الملك فؤاد بأفكاره وهدمه لوجود فكرة خلافة دينية من الله في الإسلام تتسيد على المجتمع المسلم، وفنّد كون دولة النبي كانت دولة دينية، وأنها لم تكُ لها مشروعية من الله بعنوان وجوب إقامة دولة إسلامية، وإنما كانت مشروعيتها من الشعب والأمة بالبيعة والعقد الاجتماعي.
استنتاج
في ضوء ما تقدم، أرى أن النبي الأكرم (ص) لم يكُ حاكما لدولةٍ لا بالمقايسة مع الدول التي سبقته، ولا التي لحقته، وإنما كانت حكومته حكومة على غرار الحكومات والسياسات القبلية المتعارفة في تلك المنطقة الصحراوية التي كانت تدار بوساطة النظام القبلي مع التشريعات الإسلامية الوحيانية، وغير الوحيانية “المتعارف من الأخلاقيات الجيدة وما أضيف إليها من طرق خاصة لتربية النفس والفرد المسلم”، كما قال الشيخ علي عبد الرزاق:
“كلما أمعنا النظر في حال القضاء زمن النبي (ص) وفي حال غير القضاء أيضا من أعمال الحكم، وأنواع الولاية وجدنا إبهاما في البحث يتزايد، وخفاءً في الأمر يشتد، ثم لا تزال حيرة الفكر تنقلنا من لبس إلى لبس، وتردنا من بحث إلى بحث إلى أن ينتهي النظر بنا إلى غاية ذلك المجال المشتبه الحائر”([1]).
وقال أيضا: “إذا كان رسول الله (ص) قد أسس دولة سياسية، أو شرَعَ في تأسيسها فلماذا خلت دولته إذًا من كثير من أركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعريف القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟ ولماذا؟ ولماذا؟ ([2])”.
نريد أن نعرف منشأ ما يبدو للناظر ملهما، أو مضطربا، أو ناقصا، أو ما شئتَ فسمّه في بناء الحكومة أيام النبي؟. “ربما أمكن أن يقال أن تلك القواعد والآداب والشرائع التي جاء بها النبي (ص) للأمم العربية وغير العربية أيضا كانت كثيرة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم، فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات، وللجيش، وللجهاد، وللبيع، وللمداينة والرهن، ولآداب الجلوس والمشي والحديث وكثير غير ذلك([3])“، ثم قال: “ولكنك إذا تأملتَ وجدتَ أن كل ما شرعه الإسلام وأخذ به النبي والمسلمون من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءا يسيرا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين”، ثم قال بعد ذلك: “إنما كانت ولاية محمد (ص) على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم”.
الى هنا أكتفي في بحث جذور هذه المسألة التي كثر فيها اللغط والأخذ والرد في كون دولة النبي محمد (ص) كانت دينية أم لا، أو أنها دولة أم لا في الأساس، لننتقل الى نشأة الاسلام السياسي في أول تمظهره في العصر الحديث في جماعة الإخوان المسلمين التي منها انبثقت أغلب الأحزاب والحركات والتيارات التي تبنت الإسلام السياسي لاسيما في إيران والعراق، والإسلام السياسي الشيعي بشكل عام .
يتبع…
ماهر سلطان2021
[1] ) كتاب الإسلام وأصول الحكم، ص46.
[2] ) المصدر نفسه، ص75.
[3] )المصدر نفسه، ص84.